البيروقراطية آلة ضخمة لصد التنمية وصناعة التسلط

أصناف معرقلات التنمية في المجال العربي عديدة ومتنوعة، تبدأ من العقل العربي ومخياله لتصل إلى طبيعة النظام والدولة. وكل هذه العناوين الكبرى تتكون من تفصيلات تشكل عوائق يومية أمام التطور، لعل أهمها البيروقراطية التي يمكن أن تكون عامل بناء وتماسك مجتمعي مثلما يمكن أن تكون جدارا ضخما للإجراءات والتعقيدات التي تعيق سير الحياة.
السبت 2016/08/20
أختام لا تنتهي

يؤكد دارسو السياسة والإدارة أن تحقيق التنمية، بأشكالها البشرية والاقتصادية والاجتماعية، يُفترض أن يكون أولوية لدى السلطات التنفيذية في الدولة؛ الأمر الذي يتطلب تطوير جهاز إداري يتسم بالكفاءة والفاعلية. لكن التراث البيروقراطي العربي، بواقعه الراهن والصورة النمطية المأخوذة منه، يقف عائقاً أمام انطلاق قطار التنمية في دول عربية عديدة.

وتبدو البيروقراطية، بما هي سلطة المكاتب والتنظيم الإداري التراتبي ووحدانية وصرامة التعليمات، سلاحا ذا حدين؛ فقد تستخدم لتعزيز العدالة والمساواة وسيادة القانون، وقد تكون عقبة أمام التنمية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. يقول المفكر المغربي عبدالله العروي في كتابه “مفهوم الدولة”، “إن البيروقراطية وسيلة فقط؛ قد تستعمل في صالح الحرية وقد تستعمل لصالح القمع العنيف، حسب الظروف العامة، وحسب حجم ونظام وأخلاقية البيروقراطية ذاتها”، ويؤكد أن “الدولة العربية الحالية متأرجحة بين نمطين: السلطانية المملوكية والتنظيمية العقلية، بل تبدي في الواقع ملامح النمطين معا”.

ويكمن سبب هذا التأرجح، بحسب العروي، في الفجوة بين السياسة والمجتمع المدني، وبين الدولة والفرد؛ تلك الفجوة الموروثة عن السلطانية القديمة والتي ركزتها الإدارة الاستعمارية الأجنبية.

مفهوم جدلي

وقد شهدت مرحلة ما بعد “الربيع العربي” تصادما بين “طموحات الميادين” التي بلورتها الثورات و”ثقافة الدواوين” التي رسختها الحكومات عبر عقود وربما قرون. وثمّة من يجادل اليوم بأن قوة ورسوخ الجهاز البيروقراطي العربي، رغم مظاهر الترهل والفساد، ساهما في الحفاظ على استقرار الدول وتماسكها في وجه اهتزازات أنتجتها رياح التحول الديمقراطي، لكن آخرين يستخدمون مصطلح “الدولة العميقة”، بما يتضمنه من معاني الاستبداد والفساد، في وصف تجذّر النفوذ البيروقراطي المعيق للدمقرطة والتنمية والشفافية وتطور المجتمع المدني. فهل توجد بيروقراطية إيجابية وأخرى سلبية؟

سؤال طرحته “العرب” على الأكاديمية العراقية، نغم حسين نعمة، أستاذة إدارة الأعمال في جامعة النهرين ببغداد، فأجابت بأن “عدم فعالية ونقص كفاءة الأنظمة البيروقراطية أديا إلى تذمّر الناس منها، حتى أصبح مصطلح ‘بيروقراطية’ كلمة سلبية، وإن كانت في أساسها مفهوما إيجابيا يحقق مصالح مهمة في النظم الإدارية الحكومية”.

المجتمع ينتج بيروقراطية مشابهة له كما تطبع البيروقراطية سماتها عليه مثلما تتأثر هي بالنظام السياسي

البيروقراطية والديمقراطية

أوضحت نعمة، المشتغلة بأبحاث تطوير المنظمات وتحسين الأداء المؤسسي والجودة الشاملة، في مقابلة مع “العرب”، أن “أحد أهم التحديات التنظيمية التي تعانيها المؤسسات الحكومية هو كيفية خلق توازن بين بيروقراطية حكومية تقود إلى بطء في الإجراء، وبين اعتماد أنظمة إدارية مرنة تعطي المؤسسات الحكومية صلاحيات موسعة وفاعلية كبيرة”، وتستدرك نغم نعمة فتوضح أنه “حتى الصلاحيات قد يُساء استخدامها”؛ لذلك تطالب بوضع “معايير مالية وتنظيمية وتشغيلية تحكم أداء المؤسسات بشكل سنوي، وتطوير نظم المراقبة والمحاسبة فيها”.

وترى نعمة أن التنظيم البيروقراطي قد لا يتمتع بفعالية كبيرة في الأداء بقدر ما يسعى لتحقيق درجة عالية من المساواة والعدالة. وتقول الأكاديمية العراقية “لا شك أن النظم الحكومية البيروقراطية يُراد منها تحقيق المساواة والصرامة في منع التلاعبات، لذا فهي تسعى لتحقيق أهداف سامية ممثلة في العدالة وسيادة القانون، عبر محاولتها منع وجود بيئة خصبة للفساد واستغلال النفوذ”. فالأنظمة البيروقراطية، من وجهة نظر الخبيرة الإدارية نعمة، “لا تهدف إلى التيسير، بل تسعى نحو تحقيق التنظيم، حتى لو جاء على حساب سرعة الإنجاز”.

ورغم أن النظم البيروقراطية تبني شرعيتها على فكرة ضمان الشفافية والمساءلة، فإن ثمّة من يعتقد أن البيروقراطية هي إعاقة المساءلة والمحاسبة لا تعزيزهما؛ إذ ترى الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت أن “البيروقراطية أو الحكم الذي يمارس عبر نظام مكاتب معقد، لا يمكن في رحابه للبشر سواء أكانوا واحدا أو نخبة، قلة أو كثرة أن يُعتبروا مسؤولين”، وهو ما تطلق عليه اسم “حكم لا أحد”، وتضيف “إذا كنا تبعا للفكر السياسي التقليدي نُعرّف الطغيان بكونه حكومة غير مجبرة على تقديم أي حساب لأحد عما تمارسه، فإن حكم اللا أحد يُعتبر وبكل وضوح الحكم الأكثر طغيانا؛ طالما أن ليس ثمّة أي شخص يبقى ليُسأل الحساب حول ما أنجز”.

نغم حسين نعمة: البيروقراطية لا تهدف إلى التيسير بل تسعى للتنظيم حتى على حساب السرعة

وإذا كانت البيروقراطية، بحسب مقاربة أرندت، تتناقض بطبيعتها مع الديمقراطية؛ فإن حالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي والانقسام المجتمعي التي سادت بعد احتجاجات “الربيع العربي” باتت تعيق عمليا المواءمة بين التحول الديمقراطي من جهة، والمحافظة على التماسك والرسوخ المؤسسي للدول من جهة أخرى؛ الأمر الذي يجعل إيجاد “معادلة تضمن جزئيا مميزات القطاع الحكومي من عدل ومساواة وتنظيم كما تحقق سمات القطاع الخاص من كفاءة عالية في الأداء ومرونة في الإنجاز″ أمرا ليس من السهل تحقيقه، هذا ما تعتقده الخبيرة نعمة، وتلفت إلى أن “الكثير من الدول سعت لإنشاء ما يعرف بالمؤسسات غير الربحية من أجل بلورة توازن بين تحقيق حد أدنى من الأرباح، يُقدّر بأقل من 5 في المئة عادة، وبين السعي لكفاءة معقولة في الأداء”، وتشدد على ضرورة اقتران هذا التوجه مع اعتماد “التقييم السنوي على أساس المعايير الإدارية والتنظيمية والمالية، وكذلك منظومات الشفافية والرقابة والمتابعة والمساءلة”.

أما على صعيد إدارة الموارد البشرية للدول، فيرى متخصصون أن اعتماد مبدأ “تكافؤ الفرص” في القطاع العام سيسهم في بلورة نموذج بيروقراطي أقرب للأمثلية الإدارية، حيث يُقيّم الأفراد في المؤسسات الحديثة، كما تشير الخبيرة نعمة، “وفق معايير الأداء والإنجاز والكفاءة، لا عبر انطباعات شخصية تختلف من شخص إلى آخر”.

تضارب أولويات

لقد أدى تقادم البيروقراطية العربية وغياب التطوير والتحديث، والانسدادات السياسية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية؛ إلى استشراء ظواهر الفساد المالي والإداري واستغلال النفوذ والوظيفة العامة، كما أسهمت المحاصصات الحزبية والفئوية، والمحسوبيات الزبائنية والمنسوبيات الجهوية في تكريس الترهل الإداري وإعاقة عمل المؤسسات.

لكن الإحساس بهذا الواقع يحتاج إلى وعي ومسؤولية عند المباشرة بمعالجة أزماته، تقول نغم نعمة “في ظل تأخر وبطء الإجراءات الحكومية بسبب النظام البيروقراطي تتعالى أصوات تطالب بالمزيد من مرونة النظم الإدارية، وهي دعوات صادقة في مبدئها، لكنها تحتاج إلى ضبط لأن مرونة الأداء قد تقود إلى فوضى وفساد”، وتعتقد أن المرونة في الأنظمة الإدارية لا تضمن بالضرورة تسهيل الإجراءات، وإنما قد تؤدي إلى “فساد مالي وإداري واختلال تنظيمي في ظل غياب ضوابط تحكم الصلاحيات والممارسات”.

ويدعو خبراء إلى تبني جملة من السياسات والإجراءات لتطويع الجهاز البيروقراطي في الدول العربية ليكون داعما لعملية التنمية. وتعتبر نعمة، المتخصصة في إدارة الاستثمار والأزمات المصرفية، الاستعصاء البيروقراطي معيقا للتطور الاقتصادي؛ تُبيّن “ضرر النظم البيروقراطية على القطاع الخاص أكبر من نفعها؛ لذا فإنه من الخطأ تطبيق النظم البيروقراطية على النشاط الاستثماري الخاص، الوطني والأجنبي؛ لأن أولويات المستثمر ليست بالضرورة هي أولويات القطاع الحكومي”.

وترى نعمة، أن “القطاع الخاص يسعى لتحقيق قفزة عالية من الربحية كإحدى أهم أولوياته، فالموازنة بين تقليل الكلفة وزيادة العائد هي ما يحرّك القرار في مؤسسات الأعمال”؛ لذا فإن بيروقراطية القطاع الخاص، حسب نغم نعمة، “مذمومة لأنها تشلّ كفاءة الأداء والتي تعني إنجاز الأعمال وفق وقت محدود، وكما هو معلوم فإن تحقيق مستوى مرتفع من الكفاءة من أهم أولويات القطاع الخاص”.

كاتب من العراق

6