البنك اللاربوي مغنم الإسلاميين المهدد لوحدة المجتمع

البنوك الإسلامية تشكل خطرا حقيقيا على وحدة الدول متعددة المذاهب والأديان، لأن الاقتصاد القائم على أساس ديني يشطر المجتمع ويحوّله إلى جزر مذهبية مقطوعة الجسور.
الثلاثاء 2019/05/28
مخاطر تحاصر تماسك المجتمع

لم تقتصر أدوات تيارات الإسلام السياسي الساعية منذ عقود إلى أسلمة المجتمعات فقط على تلك الأدبيات القائمة على الأيديولوجيا العقائدية الهادفة لاختراق أنسجة الشعوب، بل ترجم الإسلاميون حضورهم أيضا على أرض الواقع باقتحام قطاعات ومجالات عدة بما في ذلك الاقتصاد الذي أغرقوه بعدة مصطلحات كانت مطيتهم للتفريق بين أفراد الشعب الواحد، ومنها البنوك الإسلامية التي شكّلت ولا تزال خطرا حقيقيا على وحدة الدول، فأي اقتصاد يكون مبنيا على أساس ديني من شأنه أن يقسّم المجتمع ويحوّله إلى أشبه بجزر ومقاطعات مقطوعة الأوصال والجسور رغم أن أفراده يعيشون في بلد واحد.

لندن - ظهرت البنوك الإسلامية في السبعينات من القرن الماضي، على أنها بنوك للاربوية، كان ذلك متزامنا مع الصحوة الدينية، وانتعاش الإسلام السياسي، الذي ارتبط بهذه البنوك، وجعلها محط جذب للأموال، مع أن فوائد البنوك التقليدية أو الرسمية لا علاقة لها بالربا، الذي حُرم في القرآن، يوم كان العمل المصرفي محدوداً جداً، والأموال تُكنز في البيوت وتحت طبقات الأرض، أو ما كان يسمى بالدفائن، ذلك الرِّبا الذي كان يدفعه مَن أقترضه لأجل الطعام، إضافة إلى أنه كان محتكراً لليهود بيثرب، فأراد الإسلام إضعاف تجارتهم تلك. غير أن القرضة الحسنة، وهي الخالية من الفائدة، يمكن أن تكون بين شخصين، الدائن والمدين، لكن لا يمكن أن تحدث بين البنك وشخص، وهذا لا يحدث حتى من قِبل ما يسمونه بالبنك اللاربوي.

إن واقع البنوك الإسلامية لا يخدم في بناء مؤسسات الدولة، وهي تشكّل خطرا حقيقيا على وحدة الدول متعددة المذاهب والأديان، لأن الاقتصاد والمال القائم على أساس ديني يشطر المجتمع ويحوله إلى جزر مذهبية مقطوعة الجسور، والمجتمع لا يتوحد ولا يتطور إلا بوحدة اقتصادية تجمع كل فئاته، وتكون المصلحة الاقتصادية تعم كل المذاهب والأديان، ويكون السوق واحدا، كما هو عبر التاريخ لا يفرق بين أطياف المجتمع.

مشكلة الربا

جاء في دراسة موسوعة في “مشكلة الربا”، نشرها موقع الميدل إيست أونلاين في سبع حلقات، قام بها الكاتب حسين سميسم، وضحت أن أرباح البنك تأتي من الخدمات البنكية التي يقدمها لزبائنه، حيث يحصل على عمولات خدمية، كذلك يقوم البنك بصرف الكمبيالات، وفتح الاعتماد المستندي، وعقود الوكالة والحوالة وعقود الضمان والتحويلات المصرفية والصرافة، وتأجير الصناديق التجارية، وبيع الأسهم… الخ. وكل هذه العمليات متشابهة مع عمل البنوك التقليدية.

حسب دراسة الباحث سميسم ما يلاحظ في التعاملات البنكية بالبنوك اللاربوية، تشابهها وتطابق حقيقتها مع البنوك التقليدية حكومية كانت أو أهليه، وقد تضاف ميزة للبنوك الحكومية والأهلية هي خضوع تعاملاتها لرقابة البنك المركزي الذي يضمن أيضا حقوق المودعين ويشرف عليها، وهي أوضح في تعاملاتها مع الزبون ولا تكلّفه خسارة ما ولا تفرض عليه زكاة أمواله.

وقد انتبه الشيخ علي جمعة والسيد طنطاوي وآخرون لذلك فأجازوا التعامل مع البنوك التقليدية، وتركوا الأمر تخييريا للناس في التعامل مع البنوك الإسلامية أو التقليدية.

البنوك الإسلامية تسعى إلى تقسيم المجتمع إلى مجموعات إيمانية مرتبطة بالبنك وأخرى كافرة وتتعامل مع البنوك الربوية

وكان لدور الدولة والخراب الذي تسببه البنوك الإسلامية لبنوكها الأثر الأكبر في ما أفتوا فيه، إضافة إلى معرفتهم الدقيقة بعدم اختلاف البنوك الإسلامية عن التقليدية، فأفتوا بجواز التعامل مع البنوك التقليدية، ويمكن القول إنهم أفتوا انحيازاً لمصلحة الدولة، وهي قضية عقلانية لا تحتاج إلى استنباط شرعي نصي أو روائي، وقد تجد مواقف أخرى معاكسة تنحاز لسلطة النص وليس لمصلحة الدولة (ليس السلطة). لكنهم رغم هذا الانحياز لمصلحة الدولة فسروا الأمر دينياً بحكم عملهم كرجال دين.

لقد استخدم شيوخ الفضائيات من الإسلاميين كل الوسائل الإعلامية في الهجوم على البنوك الحكومية للدعاية لما يسمى بالبنوك الإسلامية التي تزايدت بأعداد قل نظيرها حتى بلغت حوالي 500 بنك، ويوجد برنامج يسمى (دين ودينار) في إحدى الفضائيات يستضيف رؤساء اللجان الشرعية في البنوك للدعاية للبنوك الإسلامية، وهي دعاية مركزة ترهب الناس وتجعلهم على شفا جهنم لو لم يضعوا أموالهم في تلك البنوك الإسلامية، ويخلق هذا البرنامج في نفس الوقت رأيا اجتماعيا مفروضا هدفه ردع الناس عن الدخول إلى دائرة ما لا يرضاه شيوخ البنوك، ويشيع ثقافة الحلال والحرام في كل خطوة وحركة، فيرتبط المواطن اجتماعيا ونفسيا ودينيا بهؤلاء وينسى ان هدف البنك هو الربح ليس إلا.

هدف الربح

إن الهدف الأساسي للبنوك التي تسمّي نفسها بالإسلامية هو الربح ويتطابق هذا الهدف مع أهداف البنوك العادية، وتتميز البنوك الإسلامية بأن لها أهدافا اجتماعية وسياسية في سياق تعاملاتها ولا يخفيها أصحاب هذه المشاريع، ويتجسد الهدف الاجتماعي في التأثير المباشر على المجتمع من خلال ربط مال الزبائن بالفرائض الدينية، حيث يجد الزبون نفسه بأنه أمام واجبات دينية عليه القيام بها، وكان الجامع مختصا بتلك الواجبات، فقد وضعت لجنة الاستشارات الشرعية في البنوك لتقرر ما على المسلم الذي أودع أمواله في البنك من واجبات دينية، ويجري ذلك تحت قيادة دينية مذهبية عليا هي المجمع العالمي للبنوك الإسلامية الذي يقوده رجال الإخوان.

ثم ربط المجتمع اقتصاديا واجتماعيا بمؤسسة البنوك التي تقوم بتحديد توجهات المجتمع أيضا عن طريق تمويل ما يراه البنك الإسلامي حلالا من مشاريع وسلع غير محرمة، فهو لا يمول المسارح ولا دور السينما والموسيقى ولا المدارس المختلطة، ولا قاعات الرياضة النسوية التي يمكن أن تطل عليها عيون الرجال، ولا يمول تجارة الملابس غير الإسلامية وكذلك الكتب، للضغط من أجل أسلمة المجتمع.

تسعى البنوك الإسلامية إلى تقسيم المجتمع إلى مجموعات إيمانية مرتبطة بالبنك وأخرى كافرة وتتعامل مع البنوك الربوية. فهم يستشهدون بحديث رواه مسلم (رقم 1598) عن رسول الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه). فهؤلاء الملعونون لا مكان لهم في المجتمع وعليهم التوبة من إثم ودائعهم الموضوعة في البنوك التقليدية. وللبنوك الإسلامية أهداف داخلية ذكرنا بعضها وأهداف خارجية، فهي تقوم بتوجيه صدقات.

عموماً يعتبر البنك اللاربوي من المصطلحات الجديدة التي تدخل في قاموس الفقه، حيث بدأ الفقهاء تقسيم البنوك إلى بنوك ربوية وأخرى إسلامية (لاربوية) كما قسموا الربا إلى ربا محرم هو ربا الجاهلية وآخر محلل هو ربا البنوك الإسلامية. وأشاعوا هذا المفهوم في مناطق وجود المسلمين.

واستطاعت البنوك التي تسمى بالإسلامية تحقيق أرباح كبيرة لأنها ملأت فراغا افتراضيا، وقد يتبادر للذهن بأن البنوك الإسلامية لا تتقاضى فائدة على قروضها التي تعطى للعملاء، كما لا تعطي فائدة على الودائع التي يضعها الناس في هذه البنوك، وان البنوك الإسلامية تحرم الفائدة، وهذه الاحتمالات غير واردة لأن البنك لا يمكنه البقاء دون تحقيق فوائد على القرض والإقراض. الأسماء تتغير فقط، وهي تحمل أقنعة وألبسة دينية وتصبح الفائدة بعد لبسها ألفاظ الحلال.

بدأت الخطوة الأولى من تفسير حرمة الربا تفسيرا جديدا، وبيان معاني الربا وماهيته لغرض الالتفاف عليه وتغيير المصطلحات بأخرى ظاهرها البيع الحلال وباطنها الفائدة البنكية، أي تغيير القواعد الشرعية الدينية التي تحرم الربا، وذلك عن طريق الخروج شكلا من الربا الذي نص عليه القرآن، ولتحقيق ذلك لابد من البدء من المؤسسات الدينية الرسمية المعترف بها -التي أممت حق التفسير لأنها صاحبة الاختصاص الذي يؤهلها للتفسير والفتوى- للحصول على الشرعية الدينية، لكنهم فشلوا كما قلنا بسبب عدم نضج المؤسسة الدينية لتقبل هذه الآراء وعدم حاجتها في ذلك الوقت إلى البنوك الإسلامية، خاصة وأن المؤسسة الدينية كانت في ذلك الوقت تعيش على رواتب الدولة أو من الرواتب المتحققة من الحقوق الشرعية التي يدفعها الناس، وكان حجم المال المتجمع عندهم قابلا للادخار والحفظ تحت (البلاطة).

تسمية الفائدة بالهدية

شيوخ الفضائيات يستخدمون كل الوسائل الإعلامية في الهجوم على البنوك الحكومية للدعاية لما يسمى بالبنوك الإسلامية
شيوخ الفضائيات يستخدمون كل الوسائل الإعلامية في الهجوم على البنوك الحكومية للدعاية لما يسمى بالبنوك الإسلامية

بدأ محمد باقر الصدر بتأليف كتاب البنك اللاربوي في الإسلام في نهاية عام 1969، وقد جاء في الكتاب (لاحظنا في وضع سياسة البنك اللاربوي تجاه الفوائد الربوية على القروض أن (تصاغ) بشكل يميزها قدر الإمكان (نصا وروحا) عن فكرة الربا المحرم في الإسلام)(ص 164).

وشرط أن تكون نسبة الفائدة التي على البنك اللاربوي أن يعطيها للعميل اكبر في البنوك اللاربوية منها في البنوك الربوية حيث قال “ألا تقلّ النسبة (المئوية من الربح) التي تخصص للمودعين عن الفائدة التي يتقاضاها المودع في البنك الربوي لأنها إذا قلّت عن الفائدة انصرف المودعون عن إيداع أموالهم من هذا البنك إلى البنوك الربوية التي تدفع الفائدة” (ص 34). ومن خلال هذا النص نفهم أن الصدر وضع البنك الربوي كما هو وغير أسماء المصطلحات والمعاملات، حيث الوسيلة والشكل والأسماء والمصطلحات كلها مختلفة.

قام الصدر بتعويض كلمة الربا أو الفائدة بالجعالة (هدية) مثلا يذهب المقترض للبنك ويقول: من أقرضني دينارا فله درهم، لأن الجعالة فرض شيء على عمل لا على مال حسب قوله. وتحويل كلمة القرض إلى إتلاف المال، وبذلك تخرج هذه الكلمة من مفهوم الربا المرافق للقرض.

والطلب من البنك تسديد الدين في بلد آخر ثم التراجع عن ذلك للتسديد في نفس البلد، وسيفرض البنك مصاريف إضافية على هذه العملية، وسيدفع المدين مبلغا أعلى من المبلغ الأصلي لكنه لا يسمّى ربا. والتلاعب بمفهوم المكيل المحرم والموزون، لأن التعامل بالدنانير الورقية في الوقت الحاضر ليس مكيلا ولا موزونا.

التعامل بالمعدود بدل الموزون لأن المعدود حسب الروايات ليس محرما. مثل بيع البيض بعدد أقل من الأصل أو بيع الأبقار والأغنام والخيل بزيادة وبيع البعير بالبعيرين، أو شراء 8 دينار بعشرة مؤجلة. أو وفاء القرض لشخص ثالث مثلا زيد يقرض خالدا دينارا ويشترط عليه أن يدفع درهما لدى الوفاء للفقير أو للبنك.

حدد الفقهاء (قبل فترة ظهور البنوك في الدول الإسلامية) الفروقات بين كل تلك المصطلحات ولم يختلفوا اختلافا كبيرا على تحديدها، وخصصوا أبوابا في كتبهم لكل واحدة من تلك المصطلحات لكي لا يُساء فهمها وتدخل في العمليات الربوية. كما شرع بعض الفقهاء عقوبات قاسية على مرتكب الربا

كالخروج من الدين والكفر به (حسب تعبير السيد طنطاوي)، ويترتب على ذلك تفريق المرابي عن زوجته، وحرمة الصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة ولا يرث من المسلمين ولا يرثونه لقول النبي لا يتوارث أهل ملتين فهو قد ارتد عن الإسلام ولم يعد مسلما.

ويُشير الكاتب سميسم، إلى أن أعضاء حزب الدعوة، وهم على صلة بالصدر وكان أحد مؤسسي حزبهم، لم يشيدوا بنكا (لاربويا) بعد استلام السلطة في العراق (2003). كما أن كتاب الصدر “البنك اللاربوي” خلا من مقدمة تحليلية لآيات القرآن في سور البقرة وال عمران والروم، بل لم يستشهد بأي آية في كتابه الذي يبحث عن حلول إسلامية لمشكلة الربا.

من هذا يتبين بأن المجموعة الأولى التي نزعت للخروج من حرمة الربا هم الإخوان المسلمون، وبعد بضعة عقود تبعهم الصف الأول من المؤسسة الدينية التي توفرت لأعضائها الإمكانات المالية جرّاء عملهم في دول الخليج في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ويلاحظ بأنهم لم يودعوا أموالهم في البنوك الإسلامية التي أسسها الإخوان بل وضعوها في البنوك الحكومية، وقد تبعت فتواهم السلوك نفسه فهم قد أحلّوا فائدة كل البنوك الحكومية والأهلية والإسلامية دون تحديد الأسماء، وتبعهم بعد ذلك الفقهاء الآخرون ممن أصبحت لديهم إمكانات مالية مودعة في الدول الغربية، فأفتوا بجواز أخذ الربا من الكافر وعدم جواز أخذ القرض منه، ومازال معظم السلفيين في نهاية القائمة فمنهم من حرم الفائدة البنكية.

حسب بحث “مشكلة الربا” ظل جزءاً من قضية الربا يحمل معانٍ أخلاقية وإنسانية تدين استغلال الغني للفقير، واكتسبت حرمته المرتبطة بالاستغلال بين المسلمين معاني أخرى منطلقة من الأخوة الإسلامية التي لا تبيح استغلال الفقراء، وعوّضت أموال الصدقات والزكاة حاجة فقراء المسلمين -الذين لا يستطيعون العمل أو القتال- عن طلب القرض من الأغنياء بالربا، وما دام بيت مال المسمين موجوداً والخمس متوفرا فما حاجة الفقراء لأخذ القرض من الأغنياء.

لقد اقتصر معنى الربا عند الفقهاء في ما بعد على معنى استغلال الغني للفقير فقط، وقد كان هذا جزءا صغيرا منه، لأن القرض بالربا كان يهدف إلى استثمارا المال في التجارة من قبل التجار أنفسهم أو من قبل المزارعين لغاية آخر الموسم، ويطلق عليه بالربا الاستثماري

ويقابله الربا الاستهلاكي الذي يستخدم للمأكل والمشرب وهو نادر الحدوث. هذا كله، لا علاقة له بالفائدة البنكية التي يستوفيها البنك اللاربوي، حسب عنوانه، مثلما يستوفيها البنك التقليدي، وأكثر، ولكن بعد التلاعب بالألفاظ والمصطلحات.

12