"البليد الأثري" حكاية التاريخ في ظفار القديمة

ظفار (عمان) - يُعد موقع البليد الأثري في مدينة صلالة بمحافظة ظفار جنوب سلطنة عمان، من بين أهم المواقع الأثرية في البلاد نظرا للمكانة التي كان البليد يتمتع بها على مدى التاريخ وماضيه الضارب في القدم.
وتحول الموقع التاريخي الهام إلى قبلة السياح الزائرين للمحافظة، فهو أحد أهم المزارات التاريخية الثقافية التي توجد فيها مدينة أعيد إحياؤها من تحت التراب لتكون شاهدا على تاريخ ظفار العريق. ويقع الموقع على بعد أقل من مئة متر من ساحل المحيط الهندي، على الشريط الساحلي لولاية صلالة، المعروفة من قبل المؤرخين الإسلاميين باسم ظفار.
وبشأن الموقع القديم قال سعيد بن سهيل بن سالم العامري، مشرف منتزه البليد الأثري للأناضول، إن المدينة من أقدم المدن الأثرية في جنوب الجزيرة العربية.
وأشار إلى أن “موقع البليد، يضم المدينة الأثرية ومتحف أرض اللبان، والمنتزه الذي يحتوي عليه الموقع”.
وأضاف “كان الموقع المسجل في قائمة يونسكو للتراث العالمي، يعتبر ميناء تجاريا مهمّا جدا في القرن الثامن وحتى القرن السادس عشر، والذي مكّن من تصدير اللبان من ظفار إلى الخارج”.
وأوضح أن تاريخ مدينة البليد القديمة يعود إلى العصر البرونزي 2500 قبل الميلاد ومثلت مركزا سكانيا رئيسيا.
ومتحدثا حول مكونات المدينة القديمة، قال إنها تحتوي على آثار بارزة أهمها الحصن الرئيسي الذي كان مقرا ومسكنا للحاكم، ويحتوى على بوابة رئيسية واحدة وثلاثة أبراج دفاعية.
وأضاف أن التنقيبات التي جرت في 2015، كشفت عن وجود مبنى آخر خلف الحصن يعتقد أنه يعود لحاشية الحاكم، فالحاكم يعيش في الحصن وحاشيته في المنطقة الخلفية، وفق تعبيره.
وأردف أنه “من أهم مكونات المدينة جامع البليد، وهو أقدم الجوامع البارزة في المنطقة، ويحتوى على 144 عمودا و7 بوابات رئيسية”.
وتابع “موقع البليد يعود تاريخه إلى عهد ما قبل الإسلام واكتسب بعد الإسلام رونقا إسلاميا فريدا من البناء المعماري، يظهر ذلك جليّا من خلال مسجده الكبير الذي يعد من أبرز المساجد القديمة في عمان”.
وأوضح أنه “من المثير للجدل أن المسجد مخصص لصلاة الجمعة فقط بحجمه الكبير وتوجد به غرف مختلقة يعتقد أنها لصلاة النساء وحلقات الدراسة للأطفال”.
وقال أيضا “هناك السور الجنوبي يحتوى على 17 برج دفاع و4 كاسرات أمواج”، مشيرا إلى أن تلك المكونات وكبر حجم المسجد والأسوار والحصن يعكس قوة وأهمية هذه المدينة.
وأردف “لعبت المدينة دورا مهمّا في التجارة العالمية في العصور الوسطى، حيث شملت صلاتها التجارية موانئ الصين والهند والسند وشرق أفريقيا واليمن من جهة والعراق وأوروبا من جهة أخرى”.
وتبلغ مساحة الموقع الإجمالية حوالي 64 هكتارا، ويضم شواهد أثرية تنتمي غالبيتها إلى العصور الإسلامية، ويشغل الجانب الغربي منه مبان رسمية ضخمة ومقابر وبقايا جدران حجرية وأعمدة ظاهرة على السطح.
والموقع عرّفه علماء الآثار الأوروبيون منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي، فقد زاره هاينز وتلاه كروتندن عام 1836 وكارتر في الفترة 1846ـ1851 ومايلز في ثمانينات القرن التاسع عشر وغيرهم.
وكانت البليد أطلالا مهجورة عندما وصفها عالم الآثار كارتر، وهو أول باحث يقوم بإعداد مخطط منظم للموقع عام 1846 أشار فيه إلى بعض المباني الرئيسية مثل سور المدينة الجنوبي على ساحل البحر وبعض الأبراج.
ورسم كارتر حدود الموقع في المنطقة الواقعة بين الدهاليز والحافة بمساحة تصل إلى ميلين طولا وبعرض 600 ياردة، أما عالم الآثار مايلز فقد ذكر عام 1883 أن البليد والمنطقة المحيطة بها كانت يوما ما مأهولة بعدد كبير من السكان ويوجد بها نشاط زراعي واسع.
وفي عام 1952 أجرت المؤسسة الأميركية لدراسة الإنسان حفريات غير منظمة على المدينة القديمة، خصوصا في القصر وبعض المباني الأخرى المهمة بما فيها المسجد الجامع ومدخلا المدينة.
وعام 1978 قام باولو كوستا بالتنقيب في ثلاث مناطق رئيسية هي المسجد الجامع والمنطقة “أ” التي تتضمن الجسر الغربي ومدخل المدينة، والمنطقة “ب” التي تتضمن جدران المدينة إضافة إلى مسجد.
وعثر خلال عمليات التنقيب هذه على شواهد أثرية منها أعمدة مبنية من الكتل الحجرية، أغلبها منحوت من كتلة حجرية واحدة، والأعمدة ذات المقطع بأضلاعه الثمانية وهو السائد أو الدائري، كما عثر على بقايا مسجد مربع الشكل في جنوبا وغرب المنطقة “ب” لم يكن له فناء.
وأشارت الأدلة المكتشفة في الموقع إلى مراحل استيطان أربع تغطي الفترة من 500 إلى 1700 ميلادي.
وفي العام 2009 تم تنفيذ مسح أثري شامل في محافظة ظفار بهدف تحديد طبيعة الاستيطان البشري في العصور التاريخية القديمة المختلفة.
وشمل المسح الأثري مدينة البليد والمنطقة المحيطة بها، وأشارت النتائج إلى أن أقدم البقايا الأثرية التي تم العثور عليها تعود إلى العصر الحجري القديم بين مليون إلى 10 آلاف عام تشير إليها الأدوات المكتشفة والمصنوعة من حجر الصوان والمتناثرة على طول خط الأنهار القديمة.
وتم العثور في المنطقة على مستوطنات غير مكتملة العناصر تعود إلى العصر البرونزي المبكر والعصر الحديدي، مما يشير إلى وجود استيطان مبكر في الفترة بين 2500 عام قبل الميلاد و عام 250 ميلادي.
وأكد المسح الذي أجري في المحافظة التصور العام لمدينة البليد “ظفار القديمة” والمنطقة المحيطة بها وما تتمتع به، حيث تم اكتشاف مخلفات للاستيطان البشري وأساسات لمنازل ومساجد وقنوات لري المزروعات ومقابر تشكل مدينة متكاملة.