البقاء من نصيب الأحزاب المتجددة

تصاعد السخط خلال الفترة الماضية من أداء بعض الأحزاب التاريخية في دول عربية عدة، وتطرق إلى عدم قدرتها على أداء دورها بكفاءة، ما جعل البعض يعلن انتهاء زمن الأحزاب التاريخية، وهي مغالطة سياسية أو حق قد يُراد به باطل.
ما يدحض هذه الفكرة أن الكثير من الأحزاب التاريخية في أوروبا والولايات المتحدة والصين، لا تزال تقوم بمهامها على أكمل وجه، لم تتوار بحكم فريضة الزمن، ولم تختف بسبب العجز أو الفشل عن مواجهة التحديات.
لجأ كل هؤلاء إلى الدفع بقوة نحو تجديد الدماء السياسية، عندما وجدوا أن العواصف تحيط بهم من جوانب مختلفة. ابتدعوا الكثير من الأفكار الخلاقة التي تقود إلى الابتعاد عن الأنماط التقليدية، والتي لا تجعل من زعيم الحزب “قائدا ملهما”، تسلط عليه الأضواء فقط، وتتقزم حوله جميع القيادات. هناك اختراع قديم- جديد اسمه القيادة الجماعية، يجعل الحزب كيانا صلبا ويتمتع بعافية سياسية.
كيان قادر على عدم مناطحة العصر بكل تجلياته التكنولوجية والسياسية. يستطيع القفز على الحواجز وعدم الركون إلى أفكار بالية، بذريعة الحفاظ على الثوابت، لأنها متغيرة، وما لم تتواءم مع مقتضيات الواقع سوف يكون مصيرها الانزواء والنسيان.
وأقدمت الأحزاب التاريخية الراغبة في الاستمرار على التفكير خارج الصندوق. وهي عملية أفضت إلى التضحية بزعامات تاريخية عملاقة. هل كان أحد يتوقع أن تتم إزاحة روبرت موغابي الزعيم التاريخي ورئيس زيمبابوي، بهذه السلاسة من على قمة حزب الاتحاد الوطني الأفريقي الحاكم؟
هل كان من الممكن الإطاحة بعدد من القيادات التاريخية، بينهم رؤساء جمهورية، لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في دولة جنوب أفريقيا، ما لم تمتلك قياداته إرادة حزبية تؤكد الحفاظ على تقاليد الحزب العريق الذي أسسه الراحل نيلسون مانديلا؟
كم من فنان أو رياضي لديه من المتابعين ما يفوق عدد أعضاء الأحزاب في بلد واحد مجتمعة، وفي هذه الحالة يتحول هؤلاء إلى قيمة سياسية مضافة
لم تتوقف المسألة عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى الأحزاب ذات الصبغة الجماعية، أي التي تتكون من تحالف تنضوي تحته تنظيمات وجماعات عرقية، مثل ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية. وما يعزز فكرة التطوير التي تعد القاعدة المحورية للوجود السياسي، أن من حاولوا الإبقاء على كياناتهم للحفاظ على مصالح شخصية أو حزبية، كان مصيرهم العجز والزوال ثم الاختفاء.
وتواجه الأحزاب التاريخية مصيرا غامضا، إذا أحجمت قياداتها عن مراجعة أفكارها حيال الهياكل الحزبية وأخفقت عملية تجديدها، أو إذا انحرفت عن مسارها وحادت عن ثوابتها الرئيسية.
في الحالة الأولى، هناك يقظة في الكثير من الأحزاب التاريخية الطموحة للحفاظ على وجودها، ما يجعلها تُقبل على إعادة النظر في هياكلها الداخلية، بالتعديل والحذف والإضافة، لتمتلك زمام السيطرة على مفاتيح الحل والعقد.
وفي الحالة الثانية، ثمة تحولات جرت في الأحزاب التي نشأت في ظروف تاريخية معينة، مثل غالبية الأحزاب التي ظهرت في أفريقيا خلال فترة التحرر الوطني. وعندما انتهت الحقبة الاستعمارية لم تختف، وقامت بتغيير وجهتها من مقاومة المستعمر إلى مواجهة الفساد، وتبني خطاب سياسي يهدف إلى بناء الدولة وفقا لأفكار حداثية، ومن اختفوا أو تراجع دورهم عجزوا عن تخطي هذه المعادلة.
ويمكن فهم لجوء بعض الأحزاب التاريخية إلى الاستعانة بمشاهير ونجوم فن ورياضة، على أنه حجة لهم وليس عليهم، لأنها تدخل ضمن إطار التفكير العام في كل ما يمنح الحزب زخما سياسيا، يجعله يتواكب مع طقوس العصر ومستجداته السريعة، التي تؤمن بالصورة.
ويضع هذا الواقع نجوم المجتمع في قمة الهرم المؤثر في الآخرين. فكل، فنان أو فنانة، رياضي أو رياضية، لديه من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الآلاف وربما الملايين من الأشخاص، ما يفوق عدد أعضاء الأحزاب في بلد واحد مجتمعة، وفي هذه الحالة يتحول هؤلاء إلى قيمة سياسية مضافة.
كما أن التعميم الذي يضع هذه النخب (فن ورياضة) في زمرة الباحثين عن دور لا يستقيم مع التوهج الذي يمتلكونه وسط جماهير غفيرة، جعل بعض الأحزاب التاريخية ترحب بانضمامهم إليها. ناهيك عن سعة المدارك السياسية عند الكثير منهم، ما جعل دخول بعضهم لهذا الحزب أو ذاك عن قناعة وليس رياء أو بحثا عن دور.
كم من الرياضيين والفنانين وصلوا إلى سدة الحكم في بلدانهم؟ لعل نجاح عمران خان في باكستان مؤخرا، وقبله رونالد ريغان في الولايات المتحدة، من النماذج الكفيلة لرجم حجة انتهى زمن الأحزاب التاريخية.