البحث في مصير "داعش"

الخميس 2015/06/25

“ماذا لو انتصر تنظيم داعش؟” سؤال طرحه، مؤخرا، ستيفن والت البروفيسور المرموق في العلوم السياسية بجامعة هارفارد في مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي”.

والبروفيسور ستيفن والـت هو صاحب الدراسة التي أثارت جدلا عالميا في عام 2010، حول نهاية العصر الأميركي، والتي تنبأ فيها بنهاية الهيمنة الأميركية على العالم، ودعا فيها الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب أولويات سياساتها الخارجية، والتخفيف من أعبائها والتزاماتها تجاه الخارج بما يتناسب مع الأولويات الجديدة، وبما يضمن، أيضا، الحفاظ على موقع الولايات المتحدة ومكانتها في النظام العالمي الجديد، وتفادي المغامرات العسكرية التي تؤدي إلى هدر الموارد الأميركية في حروب لا طائلة من ورائها، كما كان الحال في حربي أفغانستان والعراق.

طروحات البروفيسور والت ذات قيمة في الأوساط البحثية والأكاديمية، ومن ثمة فإن تساؤله عن احتمالية انتصار تنظيم داعش في المعركة الدائرة حاليا ضده في العراق وسوريا، تعبر عن توجه بحثي حقيقي وجاد، وليس مجرد افتراض خيالي لا أساس له، لا سيما أن والت انطلق في مقالته من التعبير عن قلقه من هكذا احتمال، وأنه لا يعني بالانتصار أن يتمكن قادة داعش من تحقيق طموحاتهم بنشر نفوذهم في جميع أرجاء العالم الإسلامي وإقامة دولة الخـلافة المـزعومة من بغـداد إلى الرباط، بل يعني، تحديدا، أن يحافظ داعش على سيطرته على المناطق التي استولى عليها، وأن ينجح في تحدي الجهود الخارجية الرامية إلى تقويضه وتدميره، وهو احتمال وراد بدرجة كبيرة في ضوء تطورات الأحداث على الأرض، وفي ظل عجز الجيش العـراقي عن شن هجوم مضاد ناجح، حسب ما يقول البروفيسور والت.

المقال يعبر عن الذهنية البحثية الأميركية القائمة على التفكير في الاحتمالات كافة، بغض النظر عن الموقف الذاتي تجاه هذه الاحتمالات، أو بمعنى آخر القيام بالدور المتوقع من مصانع الفكر في دراسة السيناريوهات كافة، السيئ منها والجيد على حد سواء، لا تقديم “دراسات تبريرية” للسياسات والخطط والبرامج القائمة.

الخبر الأسوأ في فرضية البروفيسور والت أن تنظيم داعش قد يتحول إلى “حقيقة” تتطلب تدخلا عسكريا عربيا بريا لإزالة وجود هذا التنظيم من الأراضي العراقية والسورية، لا سيما أن المزاج السياسي الأميركي لم يعد يقبل بفكرة التدخل العسكري لتحقيق أهداف ذات أولوية لدول أخرى، وأقل أهمية ضمن أولويات المصالح الأميركية، والاكتفاء بإستراتيجية “القيادة من الخلف” التي ابتكرتها إدارة الرئيس باراك أوباما وباتت تحظى بتقدير ملموس داخل الأوساط الأميركية.

القاعدة الإستراتيجية التي تحكم القرار الأميركي، في الآونة الراهنة، تنطلق من حسابات المصالح البحتة، وهذا يتطلب أن تتفوق المصالح الأميركية في التدخل البري ضد داعش على ما عداها من مصالح، وهذا أمر مشكوك فيه لأن “الهدف” لم يزل أولوية قصوى عربية وليست أميركية، وبالتالي يصعب توقع لجوء واشنطن إلى خوض حرب برية ضد تنظيم داعش.

الخطط الأميركية حول داعش لا تبشر بزوال وشيك لهذا التنظيم البغيض، ومن ثمة فإن عامل الزمن ليس في صالح الدول العربية، فأفكار التنظيم تتمدد يوميا في مناطق جديدة، و"نموذجه" يغري آخرين على استنساخه

البروفيسور والت طرح في مقاله بديلا للتعـامل مع تنظيم داعش، وهذا البديل ينطوي على خطر إستراتيجي حقيقي وهائل، ويتمثل هذا البديل في انتهاج سياسة الاحتواء تجاه “دولة داعش”، معتبرا أن التنظيم، ودولته المزعومة، لن يكونا لاعبا عالميا كي يتم إهدار القوة الأميركية في مواجهته، ومبررا ذلك بأن حشد نحو 25 ألف جهـادي من بين سكـان العالم الذين يبلغ تعدادهم نحو سبعة مليارات نسمة ليس بالأمر الذي يثير قلق القوة العظمى الأولى.

ما يثير القلق أن البروفيسور والت يتحدث بنوع من الاعتراف بالأمر الواقع والقبول بفكرة وجود دولة لـ”داعش” في الإقليم، ويقول إن داعش بدأ، بالفعل، يؤسس هياكل إدارية للدولة من خلال فرض الضرائب، ومراقبة الحدود، وبناء القوات المسلحة، والتعاون مع الجماعات المحلية، وأن بعـض الدول المجاورة باتت تعترف بهذا الواقع، ضمنيا، من خلال غض الطرف عن مختلف عمليات التهريب التي تملأ خزائن التنظيم، والإشارة هنا غالبا إلى تركيا.

وبالتالي يتساءل: كم من الوقت سيمر حال استمرار هذا الوضع قبل أن تشرع الدول الأخرى في الاعتراف بداعش كحكومة شرعية؟

ويجيب قائلا هذا قد يبدو غير معقول، ولكن المجتمع الدولي حاول كثيرا عزل حركات ثورية قبل الاعتراف بها على مضض في النهاية.

وإذا نجح تنظيم داعش في التمسك بالسلطة وتعزيز مكانته وإقامة دولة فعلية في ما كان في السابق جزءا من العراق وسوريا، فسوف تحتاج الدول الأخرى إلى العمل، معا، لإطلاعه على وقائع الحياة في ظل النظام الدولي.

ربما يكون البروفسور ستيفن والت مبالغا بعض الشيء في طرحه من وجهة نظر البعض في منطقتنا، ولكن العقل البحثي الموضوعي يفكر بطريقة مغايرة للساسة والقادة العسكريين، ويتعامل مع حقائق مجردة.

ولو نظرنا من هذه الزاوية، تحديدا، ربما يكتسب طرح والت قدرا لا بأس به من المنطقية والوجاهة البحثية على الأقل من الناحية النظرية، فهناك احتمالية – ولو ضئيلة – لإفلات تنظيم داعش بجريمته، وتحوله إلى كابوس مزمن في خاصرة المنطقة العربية.

ولذا، فإن صانعي الإستراتيجيات العربية باتوا في مواجهة مصادر خطر إضافية جمة، إذ أن داعش لن يكتفي، كما يعتقد منظرو الغرب، بالبقاء ضمن فلك “دولته” المزعومة في العراق وسوريا، ففكرة “الجهاد” ذات قوة دفع عقائدية متجددة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار على المستوى التحليلي، ومن ثمة فإن سياسـة الاحتواء قد تغري التنظيـم المتطرف بالمزيـد من التمدد والتوسع.

لا أريد، شخصيا، أن أبدو في مظهر المتشائم، أو المهتم بسيناريو ذي احتمالية ضعيفة، ولكن في المقابل ينبغي الاعتراف بأن الخطط الأميركية حول داعش لا تبشر بزوال وشيك لهذا التنظيم البغيض، ومن ثمة فإن عامل الزمن ليس في صالح الدول العربية، فأفكار التنظيم تتمدد، يوميا، تقريبا في مناطق جديدة، و”نموذجه” يغري آخرين باستنساخه.

ومن ثمة فإن مقدرة التنظيم على البقاء باتت بمنزلة “انتصار” معنوي ربما يلهم البعض لتكراره، بما لهذا الانتصار المزعوم من مغزى ودلالات لو نظرنا إليه في ضوء الفكر المتشدد الذي تعتنقه التنظيمات الارهابية المتطرفة، فلا يجب أن نتجاهل بعض الحقائق على هذا الصعيد، ومنها أن داعش قد انتقل إلى مرحلة متقدمة في ترجمة خطة “إدارة التوحش” التي طرحها منظرو تنظيم “القاعدة” كخارطة طريق لبناء الدولة الإسلامية المزعومة.

من هنا يفترض أن يكون مصير تنظيم داعش – الوجودي والفكري – الشغل الشاغل لمراكز الدراسات والبحوث العربية، لوضع سيناريوهات وبدائل وحلول وتصورات للتعاطي مع وجود محتمل، ولو بنسبة ضئيلة، لداعش، مع بروز محتمل، أيضا، لتوجه غربي ما لغض الطرف عن هذا الوجود وتوظيفه إستراتيجيا لمشاغبة قوى إقليمية عربية.

كاتب إمارتي

8