البايلا أكلة أندلسية عادت مع المورسكيين إلى المغرب حيث طورها طباخوها

الرباط- للطبخ المغربي جذور ومرجعية حضارية ضاربة في عمق تاريخ الإنسانية التي تتلاقح في ما بينها تنتقل من بلد لآخر لتتكامل وترتقي نحو الأحسن، كما أنها تتأثر وتؤثر في العادات والتقاليد، وما كان منها يستند إلى مرجعية صحيحة سليمة دام فطال عمره، وما كان منها ضعيفا مغشوشا اندثر فذهب ريحه. أكلة البايلا في المغرب، وفي مدنه الشمالية على الخصوص مثل طنجة وتطوان والعرائش تستند إلى مرجعية غذائية تراثية أصيلة عادت إلى بلاد طارق بن زياد مع المورسكيين المطرودين من فردوسهم المفقود، الأندلس.
استقرت أكلة البايلا الموريسكية في مدن الشمال المغربي واشتهرت بها مطاعمها واقترن اسم كل مدينة بطابعها الخاص في إعداد الأكلة، فيدعوك صاحب مطعم في طنجة مثلا إلى تناول “البايلا الطنجاوية” التي يتصاعد دخان طعمها المغري، منسجما مع رائحة فواكه البحر الممزوجة بطعم الأرز المطبوخ في الفرن حتى السمرة، لدرجة تجعلك تهفو إلى تذوقها وهي تبدو كلوحة فنية مشكلة من فلفل أحمر وأخضر مفروم، ودوائر الحبار البحري المسماة في المغرب بالكارامار، مضاف إليها صغير الكنبري المعروف في بلدة الرحالة التاريخي؛ ابن بطوطة، بالكروفيت الملكي، مزينة بقطع الليمون، مخلوطة بالتوابل وبهارات العطارين المغربية.
ويقول باحثون مغاربة، وفي مقدمتهم مؤرخ المملكة وأحد دبلوماسييها، الراحل الدكتور عبدالهادي التازي، في حديث سابق مع “العرب” إن اسم “البايلا لفظ أسباني يعني البقية، وهي تسمية تعود إلى ما يتبقى من طعام ولائم أمراء الأندلس السخية الباذخة، فكان الخدم بقصور أمراء بني أمية الفخمة يجمعون ما يتبقى من الطعام فيقدموه للفقراء والمحتاجين، بينما كان ألفونسو قائد أسبانيا يُخرج سيفه من غمده ثم يعيده متحسرا، ويشد بفكيه بقوة على أسنانه من الغيظ مزمجرا: لقد أتى العرب على كل شيء، وسيطروا على بلدي أسبانيا بما فيها. وإني لهم لمن الطاردين”.
وأكد المؤرخ عبدالهادي التازي أنه في العهد الأندلسي خرجت مع المهاجرين المورسكيين، عربا كانوا أو يهودا أو مسلمين، في اتجاه المغرب الأقصى، أكلة تسمى البايلا، مودعة بلدا وصفه المؤرخ بالبلد الذي ضم أعظم حضارة أسسها العرب في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ جزيرة الأندلس. وكانت البايلا عبارة عن أكلة جميلة المنظر مشكلة من خليط أطعمة متكاملة في ما بينها تغري بالأكل حتى الشبع، خصوصا إذا صاحبها كأس شاي بالنعناع من براد فضي بمطاعم طنجة أو تطوان، وصاحبها أيضا طرب الملحون.
"البايلا" لفظ إسباني يعني البقية، وهي تسمية تعود إلى ما يتبقى من طعام ولائم أمراء الأندلس الباذخة
من جانبه أشار محمد نجيب لوباريس، رئيس جمعية ذاكرة الأندلسيين، حديثة التأسيس في المغرب، إلى أن الهدف من تأسيس الجمعية هو جمع شتات الذاكرة الموريسكية المتكاملة بين العرب المسلمين واليهود الذين أُخرجوا من ديارهم الأندلسية مكرهين، وأرغموا على الهجرة الجماعية نحو المغرب وبلدان شمال أفريقيا وهم يكرسون ثقافتهم الراقية في حياتهم اليومية، ومن بينها فن الطبخ الذي يعد من أهم المكونات الحضارية التي سافرت إلى المغرب لتستقر بين سكانه بعد سقوط غرناطة في الفترة المتراوحة ما بين 1609 و1614 إلى اليوم.
وبدوره يؤكد الصحافي والطباخ المغربي المتخصص، عبدالرحيم بركاش، صاحب برنامج وليمة في التلفزيون المغربي منتصف التسعينات من القرن الماضي، في لقاء مع “العرب” بمدينة أسفي المغربية حيث أعد أكبر طاجين لبلده من كويرات كفتة سمك السردين، أن البايلا أو الباييا كما تنطق بالأسبانية، أصلها من المطبخ الموريسكي أثرت في المطبخ المغربي إلى جانب أكلتي البسطيلة ولحم الخروف بالمروزية، ونظيرتيها ذات الأصل الأسباني، “القريدس بالثوم” و”الكازو مانشيغو”، وغيرها من الأكلات العربية ـ الأسبانية التي انسجمت في ما بينها حتى تكاملت بفضل الموريسكيين الذين ساهموا بشكل كبير في بناء الحضارة العربية ـ الأسبانية في الأندلس، لكن كان جزاؤهم الطرد مع العرب المطرودين من الفردوس المفقود.
وبين دروب طنجة “العالية”، كما غنى لها المطرب المغربي الراحل الحسين السلاوي، وباعتبارها كانت من المدن البوابات التي دخل منها الموريسكيون إلى المغرب، لا تكاد تمشي مسافة فيها إلا وتلتقط أنفاسك رائحة البايلا ببصلها وجلبانها، وخليط قطع لحمها الصغيرة المدسوسة مع قطع الدجاج وفواكه البحر وسط كومة الأرز المختلطة رائحتها ببهارات العطارين الطنجاويين، حتى أنك لا تكاد ترى البايلا معروضة على واجهات المطاعم في أوانيها المعدنية، فتشد نظرك إلى ألوانها المنسجمة والمتداخلة بإبداع طباخي مدينة طنجة، التي لا تفصلها إلا بضع دقائق عن أسبانيا، حيث ما يزال الأثر العربي شاهدا على حضارة عريقة مرت من هناك ثم انهارت، في بلاد كان اسمها الأندلس، تكنى بالفردوس المفقود.