الباسيج يراهن على القمع لكبح الاحتجاجات.. فما رهان المحتجين؟

طهران - لم تتوقف الاحتجاجات الإيرانية على مقتل الشابة مهسا أميني، إلا أن الوعود التي تقطعها السلطات بقمع الاحتجاجات تعني أن على المحتجين أن يواجهوا ليس الاعتقالات وأعمال التعذيب في السجون فحسب، وإنما القتل في الشوارع أيضا.
وقد وعد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالرد بحزم على الاحتجاجات. وتحاول السلطات الإيرانية الترويج لفكرة أن الاحتجاجات تتصاعد بسبب الدعم الأميركي لها. واستدعت الخارجية الإيرانية سفراء بريطانيا والنرويج لإدانة ما تقول إنه تدخلات في الشؤون الداخلية الإيرانية.
والغاية الرئيسية من “الرد بحزم” هي تذكير المحتجين بما تم عمله لقمع احتجاجات 2019 - 2020. فهذه الاحتجاجات انطفأت بعد ليلة المجزرة التي أودت بحياة نحو 1500 متظاهر قتلوا برصاص كتائب النظام الأمنية، مثل الحرس الثوري وخصوصا الباسيج، التي تحولت إلى أداة القمع الرئيسية ضد التظاهرات المناوئة للنظام.
مصاعب لوجستية
أما الغاية من اتهام الولايات المتحدة وأطراف دولية أخرى فهي التلميح بأن التظاهرات جزء من “مؤامرة خارجية”، وأنه يتعين على كل قوى النظام وأنصاره الوقوف ضدها. وحيث أن الاحتجاجات جزء من تلك “المؤامرة”، فإن ذلك يوفر غطاء “شرعيا” لقتل المتظاهرين باعتبارهم عملاء للأجنبي، وليس لأنهم مواطنون يطالبون بحقوق أو يحتجون على انتهاكات يتعرضون لها.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد عناصر الباسيج يبلغ نحو مليون عنصر، ممن هم على استعداد لعمل أي شيء لحماية النظام ومسؤوليه ورجال الدين التابعين له، ولكن هذا العدد ليس هو العدد النهائي. وحيث أنهم قوة “شبه عسكرية”، فإنهم ينتشرون في كل مكان، وبوسعهم التغلغل وسط التظاهرات وهم يحملون السكاكين ليطعنوا بها المتظاهرين. وهذه “خبرة” تمت ممارستها في احتجاجات عام 2019، كما تمت ممارستها ضد انتفاضة تشرين في العراق أيضا.
وأفراد “شرطة الأخلاق” المسؤولة عن مقتل أميني هم من عناصر الباسيج، الذين عادة ما يتم اختيارهم من شباب الأرياف والأحياء الفقيرة الأكثر تشددا في الولاء للنظام.
وتذهب بعض التقديرات إلى أن السلطات الإيرانية تستطيع في غضون يومين استدعاء نحو مليوني عنصر أمني لكبح أي عمل من أعمال الاحتجاجات. ونقطة الضعف الوحيدة في هذه القدرة تتعلق بحجم انتشار الاحتجاجات ومدى خطورتها؛ بحيث أنها إذا امتدت إلى العشرات من المدن، كما حصل في الاحتجاجات الراهنة، فإن تعبئة هذه القوات سوف تواجه بعض المصاعب اللوجستية، إلا أنها ليست مستحيلة ما يتيح للنظام أن يسيطر عليها في النهاية، وهو ما تحقق بالفعل عدة مرات.
وعادة ما تبقى المعلومات المتعلقة بأعداد القتلى والجرحى والمعتقلين تحت إدارة السلطات. وما قد يُكشف عنها في الخارج يظل موضوعا للتشكيك والنكران، بينما يمكن للأرقام الحقيقية أن تبلغ مستويات أعلى. وبناء على تقديرات الأهالي خلال الانتفاضات السابقة فإن أعداد الضحايا غالبا ما تزيد عن الأرقام المعلنة، بما فيها التقديرات الخارجية، بعدة أضعاف.
ويشير القتل بالسكاكين وعن طريق القناصة والرصاصات المباشرة في الرأس إلى أن العناصر الأمنية الإيرانية مخوّل لها عمل أي شيء ترغب في القيام به طالما أنه يؤدي إلى تحقيق النتيجة، وهي كبح الاحتجاجات بإظهار كلفتها الباهظة على مَنْ يقومون بها.
وتشكل أعمال القمع تحديا مباشرا للتضامن الاجتماعي الذي عادة ما يكسبه المتظاهرون، خاصة في المدن التي تغلب على سكانها الأقليات، مثل المدن الكردية التي تصدرت الاحتجاجات الراهنة، قبل أن تنتقل إلى مدن أخرى.
فتوى للتعامل مع المظاهرات
تعرف السلطات مسبقا أنها أكثر عزلة في هذه المدن، ولهذا السبب تمارس ضدها قسوة أشد، مع فرض قيود على انتشار المعلومات، ومنع كل أشكال التضامن بين الأهالي حتى ولو اقتصر الأمر على حضور الجنازات.
ولدى مؤسسات النظام وقياداته اقتناع راسخ بمشروعية الرد العنيف على الاحتجاجات، ليس على الأسس المألوفة المتعلقة باحتكار الدولة لسلطة استخدام السلاح، وإنما على أسس دينية ترى في القتل حقا طبيعيا للرد على “الكفرة” و”المنافقين”. وفي العادة يتم اعتبار كل مَنْ يتخذ موقفا معارضا للنظام كافرا ومنافقا ومحاربا يجوز إيقاع حد الموت عليه. وكان هذا هو الأساس الذي نُفذت بموجبه مجزرة عام 1988، في الإعدامات الجماعية لأكثر من ثلاثين ألف معارض أو متهم بالمعارضة كانوا معتقلين في سجون النظام.
أغلب هؤلاء لم يكونوا محكومين بجرائم تستوجب العقوبة القصوى، والكثير منهم كانوا أفراد أسرة كان واحدٌ منها متهما بالمعارضة، وقد تم اعتقالهم ونفذ فيهم حكم الإعدام جماعيا. هذه المجزرة نُفذت بموجب فتوى رسمية أصدرها المرشد الأعلى في ذلك الوقت الموسوي الخميني. وهي القضية التي مازال الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي يُلاحق بسببها، لأنه كان عضوا في ما يسمى “لجنة الموت” التي أشرفت على تنفيذها.
عناصر الباسيج يبلغ عددهم نحو مليون عنصر، ممن هم على استعداد لعمل أي شيء لحماية النظام ومسؤوليه
ومازالت فتوى الخميني تشكل “الأساس الديني” لمشروعية أعمال القتل بالنسبة إلى الباسيج، وهي تنص على القول “بما أن المنافقين الخونة لا يؤمنون أبدًا بالإسلام، وإن كل ما يقولونه يأتي من المكر والنفاق؛ وبإقرار قادتهم يعتبرون مرتدّين عن الإسلام. ونظراً لأنهم محاربون، ومع الأخذ في الاعتبار حروبهم النظامية في شمال وغرب وجنوب البلاد، وصنوف تعاونهم مع حزب البعث العراقي وقيامهم بالتجسس لصالح صدام ضد الشعب المسلم، ومع العلم باتصالاتهم بالاستكبار العالمي، والضربات الغادرة التي وجهوها منذ قيام نظام الجمهورية الإسلامية وحتى الآن؛ فإن الموجودين منهم في السجون الذين لا يزالون متمسكين بموقف النفاق يعتبرون محاربين ويحكم عليهم بالإعدام”.
تنفيذ هذه الفتوى توسع في عهد المرشد علي خامنئي، ليشمل مواجهة كل الانتفاضات ضد النظام، حتى ولو كانت مجرد احتجاجات تتعلق بمطالب حياتية مثل ارتفاع أسعار البنزين أو انقطاع المياه.
ومنذ عام 2005، حيث اندلعت انتفاضة الأحواز، حتى عام 2020، لم يعد قتل “المنافقين الخونة” و”المرتدين” و”المحاربين” والذين لديهم “صلات بالاستكبار العالمي” يتطلب أن يكونوا في السجون لكي يتم إعدامهم؛ إذ يمكن تحقيق الهدف نفسه في الشوارع مباشرة.
السؤال الذين يلفت انتباه المراقبين، والكثير ممن يواجهون الآلة القمعية للنظام، هو: هل يمكن لأي وسائل احتجاجية سلمية أن تحقق الغرض منها؟ ولماذا يقتصر الرهان على احتجاجات، وليس على أعمال مقاومة مسلحة تستهدف إنهاك النظام؟
الجواب الذي خلص إليه الذين يؤمنون بالحاجة إلى حركة مقاومة مسلحة يقول إن من اختار أن يحكم بالإعدام على كل من يمارس حقه في الاحتجاج السلمي يستحق هو نفسه الإعدام، وإنه لا سبيل لمواجهة نظام يتخذ من القتل سلاحا إلا سبيل المقاومة بالسلاح. ومثلما أن النظام يريد أن يُظهر للمحتجين الكلفة الباهظة للاحتجاجات، فمن نافلة القول أن يفهم هو أيضا أن هناك كلفة باهظة مماثلة لأعماله.