الانفتاح على ثقافة التبرع بالأعضاء يمنح المرضى آمالا بالحياة في السعودية

فتاوى رجال دين تغذي مخاوف المترددين من مخالفة القيم الإسلامية.
الأحد 2023/07/23
عمل إنساني مهم

انتشرت ثقافة التبرع بالأعضاء في السعودية، بفضل جهود التوعوية والتشجيع الحكومي وجهود المتطوعين في مجال التبرع، التي ساهمت بتجاوز الكثير من السعوديين الفتاوى الدينية التي تعارض المبادئ الإنسانية بإنقاذ حياة الناس.

الرياض - تشهد زراعة الأعضاء والأنسجة في السعودية تقدما كبيرا مع الحديث عن شيوع التبرع بأعضاء المتوفين دماغيا لإنقاذ حياة أشخاص آخرين يعانون أمراضا تهدد حياتهم، في مؤشر على تحول في الوعي الاجتماعي تجاه هذه المسألة التي يخشى الكثيرون أنها تتعارض مع القيم الإسلامية.

ويمنح التبرع بالأعضاء أملاً جديداً للمئات من المرضى الذين ينتظرون في قوائم طويلة لإنهاء معاناتهم، وذلك من خلال متبرعين على قيد الحياة أو متوفين.

وجاء أحدث التبرعات، هذا الأسبوع، من ثلاثة متوفين دماغياً وافق ذووهم على التبرع بأعضائهم لصالح 11 شخصا، ويتولى المركز السعودي لزراعة الأعضاء، عملية الاستئصال والزراعة، بحسب البروتكول المعمول به في السعودية.

ووفق وكالة الأنباء السعودية، تضمنت العمليات إجراء عمليتي زراعة قلب أنقذت حياة مواطنتين تبلغان 46 عاماً، و35 عاماً، وأنهت معاناتهما من مرض الفشل القلبي النهائي، وإجراء ثلاثة عمليات زراعة كبد لمواطنين آخرين 63 عاماً، و58 عاما، و25 عاماً، أنقذت حياتهم وأنهت معاناتهم من مرض القصور الكبدي النهائي.

كما تم إنقاذ حياة مواطنة 56عاماً من مرض القصور الرئوي النهائي بإجراء زراعة رئة لها، وتم إنهاء معاناة أربعة مواطنين 66 عاماً، و36 عاماً، و33 عاماً، و20 عاماً من مرض القصور الكلوي النهائي وجلسات الغسيل الدموي بإجراء عمليات زراعة كلى لهم، إضافة إلى إجراء عملية زراعة بنكرياس لمواطنة 27 عاماً.

وأوضح مدير عام المركز السعودي لزراعة الأعضاء الدكتور طلال القوفي أن عملية استئصال الأعضاء وزراعتها تمت بسرعة قياسية، وفق الأخلاقيات الطبية، وبما يضمن عدالة التوزيع بحسب الأولويات الطبية.

توعية وتشجيع

طلال القوفي: هناك اعتقاد سائد بأن الشخص المتبرع بأعضائه لا يكفن ولا يغسل وهو غير صحيح
طلال القوفي: هناك اعتقاد سائد بأن الشخص المتبرع بأعضائه لا يكفن ولا يغسل وهو غير صحيح

انتشرت ثقافة التبرع بالأعضاء بفضل الجهود التوعوية للمركز السعودي لزراعة الأعضاء ووزارة الصحة السعودية، والتشجيع الحكومي وجهود المتطوعين في مجال التبرع، إلا أن كل هذه الجهود، لم تكن لتؤثر بنفس الوتيرة، لولا فتوى بإباحة التبرع بالأعضاء للمسلم أو غير المسلم، صدرت من رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في السعودية عام 1984؛ إذ شهدت المملكة أول عملية زراعة كلى في 1979.

واستقطبت منصّة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة في السعودية، آلافاً من السعوديين بعد إعلان الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ عهده الأمير محمد بن سلمان التسجيل ببرنامج التبرع بالأعضاء.

وتفتح مبادرة الملك ووليّ العهد باب أمل جديد في ظل النقص الشديد والتراجع في تسجيل أعداد المتبرعين عالمياً، في وقت تعد السعودية ضمن الدول الأولى عالمياً في نجاح زراعات الأعضاء، وفق “المركز السعودي لزراعة الأعضاء”.

وبحسب الموقع الرسمي للمركز، فإنه منذ إنشاء المركز في عام 1994 بلغ عدد المتبرعين بأعضائهم بعد الوفاة 17 ألفاً و534 متبرعا، تم إنقاذ 15 ألفاً و130 مريضاً، وأجريت 9 آلاف و268 عملية ناجحة، فيما ينتظر 20 ألفاً و971 مريضاً التبرع.

وتجاوز عدد حالات زراعة الكُلى 11 ألفاً و509 كُليات خلال 30 عاماً، كذلك الأمر بالنسبة إلى برنامج زراعة الكبد في المملكة الذي بدأ عام 1990 وتجاوز عدد الأكباد المزروعة 921 كبداً خلال الفترة نفسها، منها 40 في المئة زرعت من متبرعين أحياء و60 في المئة من التبرع بعد الوفاة.

كما تمت زراعة أكثر من 376 قلباً كاملاً، بالإضافة إلى الاستفادة من نحو 650 قلباً استخدمت كمصدر للصمامات البشرية. أما فيما يخص عدد القرنيات المزروعة من التبرع بعد الوفاة داخل المملكة فقد تجاوز عددها 700 قرنية.

وقالت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في بيان أن “التبرع بالأعضاء بعد الوفاة يستفيد منه الآخرون، وهو داخل في مشمول استبقاء الحياة والمحافظة عليها وعلى هذا المقصد تدور شرائع متنوعة في الدين الإسلامي، كما أن هذا التبرع من الإحسان في استبقاء حياة إنسان آخر، أو في التخفيف من آلامه، أو في الشفاء من مرضه”.

تم مؤخرا منح 100 متبرع ومتبرعة في السعودية وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الثالثة

وأوضحت وزارة الصحة السعودية عبر حسابها على تويتر طريقة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة الدماغية، مشيرة إلى أن هناك مريضا يموت كل ست ساعات، وقد يكون التبرع سببًا في نجاته.

وتتم عملية التبرع بالأعضاء في السعودية سواء كان المتبرع على قيد الحياة، أو متوفى دماغيًا.

ويمكن للمتوفين دماغيًا التبرع بأعضاء: الكليتين، الرئتين، القلب، الكبد، البنكرياس، القرنية وصمامات القلب.

بينما يتاح للمتبرعين الأحياء، التبرع بكلية واحدة، وجزء من الكبد، ونخاع العظام.

وتسبق عملية نقل العضو عدة خطوات، تتمثل في: التنسيق مع ذوي المتبرع المتوفي دماغيًا، تجهيز غرفة العمليات، حضور فريق طبي متخصص عبر الإخلاء الجوي، وتجهيز فرق إسعافية ميدانية؛ لمتابعة إجراءات النقل.

ومؤخرا تم منح 100 متبرع ومتبرعة في السعودية وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الثالثة، وذلك لتبرعهم بأحد أعضائهم الرئيسية سواء كان العضو من حي أو من متوفى دماغياً.

تأثير قوي

منصة التبرع بالأعضاء استقطبت الآلاف من السعوديين بعد إعلان الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان التسجيل بالبرنامج

إلى جانب مركز التبرع بالأعضاء، يوجد في السعودية، مركز آخر خاص بزراعة الأعضاء، يشرف على العمليات التي تجرى في المستشفيات الحكومية المتخصصة بزراعة الأعضاء البشرية، بهدف المزيد من التنظيم.

وذكر المركز الوطني للتبرع بالأعضاء عددًا من الشروط الأولية لقبول الشخص للتبرع بعضو أو جزء منه عبر موقعه الرسمي وألا يقل عمر الشخص المتبرع عن 18 عاماً، مع وجوب إثبات الهوية للمواطنين وإقامة نظامية لمدة سنة على الأقل لغير السعوديين، وأن يكون التبرع صادراً عن رضا واقتناع، ووجود فحص سريري أولي يؤكد سلامة الشخص الراغب بالتبرع بعضو أو جزء منه وعدم إصابته بمرض جهازي مزمن (الداء السكري، ارتفاع ضغط الدم) أو داء حاد أو مزمن أو مرض وراثي كلوي أو كبدي، ووجود فحوصات مخبرية تؤكد سلامة الوظيفة الكلوية والكبدية وعدم ودود إلتهاب كبد وبائي “ب، ج” ونقص المناعة المكتسبة HIV مع فحص بول طبيعي وتحديد فصيلة الدم.

ومع ذلك لايزال البعض يترددون بين التخوف من هذه المبادرة أو الاعتراض عليها استنادا إلى فتوى دينية.

ولا يمكن تجاهل فئة من المجتمع، لا تزال تعتمد على الفتاوى الدينية الصادرة عن شيوخ أكثر قربا إليهم من دعاة المؤسسات الدينية وعلمائها، ما يجعل تأثيرهم أقوى على الفئات التي تعتمد على التراث الذي تقدسه الأغلبية المجتمعية.

وغالبا ما يتم تداول فتاوى قديمة على مواقع التواصل الاجتماعي عند انتشار نبأ عن إعلان شخصية مشهورة التبرع بأعضائها بعد الوفاة، منها فتوى صادرة من الشيخ صالح الفوزان ينهى فيها عن التبرع بالأعضاء، معتبراً أن نزع أعضاء الميت كالتمثيل بجسده، ووصف هذا التصرف “بالعبث في أجساد المسلمين”.

البعض يتساءل عن أحقية اتخاذ الأهل القرار بالتبرع في حال عدم توصية الشخص نفسه بذلك، خصوصا عندما تذهب الأعضاء المتبرع بها إلى شخص من ديانة أخرى

كما يتداول البعض حديث الشيخ عثمان الخميس، الذي يتحدث فيه عن حكم التبرع بأعضاء الميت، حيث ذكر فيه أن الإنسان لا يمتلك حق التصرف في جسده حياً أو ميتاً، وعليه فإنه يحرّم عليه التبرع بأعضائه.

وحسب الأنظمة التشريعية لزراعة الأعضاء في السعودية، فالمتبرع لا يملك الحق في تقرير ما يحدث لجسده بعد أن يفقد القدرة العقلية أو يفارق الحياة على الرغم من توقيعه إقرار التبرع، إلا أن حق النقض العائلي أقوى منه في منع قرار التبرع لأيّ سبب كان، وإن تعارضت الأسباب مع معتقداته وأفكاره.

وقد أتاحت خدمة التسجيل للتبرع بالأعضاء عبر موقع “توكلنا” الإلكتروني، وهو التطبيق الذي أطلق في أزمة كورونا، متابعة الحالة الصحية للمواطنين ومن أجل ترسيخ العمل الإنساني ما زاد من أعداد المتبرعين.

وتشير الأرقام إلى تسجيل ما يقارب نصف مليون شخص بالتبرع بالأعضاء بعد الوفاة، إلا أن هذه الأرقام لا تعبر عن العدد الصحيح للمتبرعين، وبحسب بيانات المركز السعودي للتبرع بالأعضاء تراجعت نسبة تبرع السعوديين من 3.7 متبرع لكل مليون نسمة إلى 2.96 متبرع لكل مليون نسمة للمتوفين في عام 2020 لارتفاع نسبة رفض الأهالي التبرع بأعضاء ذويهم بعد الوفاة.

وذكر القوفي أن تسجيل الرغبة في التبرع عبر التطبيق يعتبر من أهم العوامل التي تساعد في إقناع ذوي المتوفين بالموافقة على التبرع بالأعضاء.

وأشار القوفي إلى أسباب رفض الأهل لتعظيم حرمة جسد الميت، بحيث لا يسمح بالمساس به وخوفاً من تشويه الجثة، كما أن هناك اعتقاداً سائداً بأن الشخص المتبرع بأعضائه لا يكفّن ولا يغسّل، وهذا أمر نفاه المدير العام للمركز السعودي لزراعة الأعضاء، إذ تتخذ معه إجراءات الغسل والدفن حسب المتبع بالنسبة إلى حالات الوفاة الأخرى، بل يتم إغلاق الشق الجراحي بصورة تجميلية، وبذلك لا يؤثر التبرع بالأعضاء في المظهر الخارجي للجثة.

ويتساءل البعض عن أحقية اتخاذ الأهل القرار بالتبرع في حال عدم توصية الشخص نفسه بذلك، خصوصا عندما تذهب الأعضاء المتبرع بها إلى شخص من ديانة أخرى.

مبدأ العدالة

المتبرع لا يملك الحق في تقرير ما يحدث لجسده بعد أن يفقد القدرة العقلية أو يفارق الحياة على الرغم من توقيعه إقرار التبرع
المتبرع لا يملك الحق في تقرير ما يحدث لجسده بعد أن يفقد القدرة العقلية أو يفارق الحياة على الرغم من توقيعه إقرار التبرع

رغم إقرار الجهات الرسمية بأن التبرع ليست له علاقة بمسألة الديانة ولا الهوية الدينية للمتبرع له، فإن هناك أغلبية صارت في حالة شك بعدما جرى إقناعها بالتحريم من زوايا عديدة، ما يتطلب تنظيم حملة توعوية تخترق هذا الجمود الفكري على مستوى رجال الدين والمفكرين وأصحاب التأثير في المجتمع.

وانتشرت حملات اجتماعية ورسمية في العديد من الدول العربية تهدف إلى زيادة الوعي بأهمية هذا العمل الإنساني والتضامني، الذي يساهم في إنقاذ حياة الكثير من الأشخاص، والدعوة إلى نشر ثقافة التبرع بالأعضاء، معتبرين أن إعطاءها لمن هم في حاجة لها أولى من دفنها تحت التراب على حد وصف بعضهم.

وتعتمد منهجية الدول في توزيع الأعضاء على مبدأين، الأول أن يكون العضو صالحاً للاستخدام أكبر فترة ممكنة؛ لذلك يُعد الأطفال هم أكثر متلقين للأعضاء، بحيث يُعمّر العضو أكثر فترة ممكنة ولا يفشل ويصبح على قائمة الانتظار، وبالتالي يكون هناك نقص.

والمبدأ الثاني في توزيع الأعضاء هو مبدأ العدالة، والذي كلما حافظت عليه الدول يشعر العديد من شرائح المجتمع بأنها شريكة في البرنامج، ويسود مبدأ العدالة في توزيع الأعضاء، في الدول التي يتوافر فيها التأمين الطبي ويكون للجمعيات الخيرية دور بارز في برامج التبرع بالأعضاء، حيث تكون مهمة الدولة أسهل لوجود تكامل بين شركات التأمين والجهات الخيرية، بالتالي يكون هناك حرص على التوزيع العادل للأعضاء، وكلما شاركت شرائح المجتمع في هذا البرنامج الإنساني انعكس ذلك على إحصائيات الدولة بأنها الأفضل من ناحية نسبة التبرع لكل مليون نسمة، وبالتالي يختفي حجم الدولة في هذه المعادلة.

وتعتبر كرواتيا من أفضل الدول وأعلاها من حيث المعدلات في التبرع بالأعضاء لوجود تكامل بين مختلف الجهات.

15