الانشغال الدولي بحرب غزة يجعل الانتقال في سوريا أبعد مما كان

الهجمات المتكررة على قواعد التحالف الدولي تقوض الاستقرار بالمناطق المحررة من تنظيم داعش.
الثلاثاء 2024/03/12
بانتظار حل لا يبدو وشيكا ولا مرجحا

دمشق - خلال السنوات الأخيرة، تراجع الاهتمام الدولي بالصراع في سوريا أكثر فأكثر وابتعد عن دائرة الضوء، لكن مع اندلاع الحرب في غزة والاستحقاقات الانتخابية المقبلة في مختلف بلدان العالم، وصل الاهتمام الدولي بسوريا إلى مستوى منخفض جديد.

ويقول بسام الأحمد، وهو مؤسس مشارك والمدير التنفيذي لمنظمة سوريين من أجل الحقيقة والعدالة، في تقرير نشره معهد واشنطن إنه في هذه المرحلة ينتظر السوريون معجزة حقيقية، لكنها لا تبدو وشيكة ولا مرجّحة.

وفي الوقت الذي يترقب فيه ما لا يقل عن 3 مليارات ناخب في 77 بلداً حول العالم، الإدلاء بأصواتهم خلال العام 2024، فيما سمّي بـ”عام الانتخابات”، بدأ ملايين السوريون عامهم الجديد في ظل ظلام سياسي دامس، مع اقتراب دخول النزاع في بلدهم عامه الثالث عشر، ومضى ثمانية أعوام على تبنّي القرار الأممي 2254، وفشله الذريع في تحريك عربة الانتقال السياسي في سوريا نحو الاتجاه المأمول، مع غياب أي رغبة دولية وإقليمية في الدفع باتجاه إنهاء الحرب القائمة بالوكالة، والانتقال بهذه البلاد إلى نظام عادل وديمقراطي حقيقي يتسع للجميع.

الحرب في غزة شتّتَتْ الأنظار تماماً عن القضية السورية وأبعدت التوافق الدولي حول الحل السوري أكثر مما نتصور

بيدَ أنّ هذا “الظلام السياسي” رافقته في العام الجديد، تعقيدات إقليمية إضافية، كان على رأسها الحرب في غزة، التي شتّتت الأنظار تماماً عن القضية السورية، وأبعدت التوافق الدولي حول الحل السوري أكثر مما نتصور.

وأعاد الهجوم الإسرائيلي على غزة عقب هجمات 7 أكتوبر التي شنّتها حماس، ترتيب خارطة الاصطفافات الدولية والإقليمية إلى حدّ كبير وحاد، وبالأخص في الشرق الأوسط، فقد عززت تلك الاصطفافات تواجد الرئيس السوري بشار الأسد على الساحة، بعد سنوات طويلة من “العزلة” وجعلت من أذرع إيران العسكرية في المنطقة أكثر قبولاً وشعبية في بعض الدوائر، بعد سنوات من رفض شريحة غير قليلة من الشعوب العربية لها، ليس فقط بسبب تدخلها العسكري المميت إلى جانب نظام الأسد في الحرب الأهلية السورية، بل بسبب تدخلها السلبي في العديد من الدول العربية مثل العراق ولبنان واليمن، حيث ساعد غياب أي أفق لحل سياسي للصراع العربي-الإسرائيلي في ترويج إيران لفكرة “المقاومة الإسلامية”، وتزعمها المفترض لذلك المحور.

وفتحت الحرب في غزة الباب أمام جهات فاعلة أخرى لتحقيق نجاحات سياسية في الشرق الأوسط على حساب المصالح الأميركية.

وبالتوازي مع زيادة شعبية إيران وميليشياتها، وانتقاماً من المواقف الغربية السابقة ضد غزوها العسكري لأوكرانيا، وسياسات بكين بحقّ تايوان، وبغية تسجيل مواقف سياسية والظهور كقوى دولية مقبولة وقريبة من قضايا شعوب المنطقة العربية بالأخصّ فلسطين، حاولت كل من روسيا والصين استغلال حرب غزة هي الأخرى، والعودة مجدداً إلى الواجهة كدول ذات تأثير في مجلس الأمن الدولي، وأقرب لتطلعات الشعوب العربية وقضيتهم المركزية فلسطين، من أي وقت مضى.

وتأمل تركيا، وهي قوة إقليمية وعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في الاستفادة من الحرب في غزة، حيث بدا موقفها أقرب للمحور الإيراني والروسي والصيني، والأكثر ابتعاداً عن سياسة واشنطن والعديد من الدول الغربية المناهضة بشكل حاسم لحماس والمؤيدة، من وجهة نظرها، لحق إسرائيل بالدفاع عن نفسها.

وعقب عدّة أيام فقط من الزيارة التي وصفت بالتاريخية لرئيس الولايات المتحدة جو بادين إلى إسرائيل، كأول رئيس أميركي يزور تل أبيب في وقت الحرب، معتبراً حماس تنظيماً إرهابياً ارتكب ” فظائع تُذكّر بأسوأ ويلات داعش”، جاء الرد التركي صارماً على شكل تصريحات أفاد بها الرئيس رجب طيب أردوغان، وبدت مغايرة تماماً للموقف الأميركي، ورافضة بالمطلق لوصف حماس بالحركة الإرهابية، بل بكونهم “مجموعة من المجاهدين ومنظمة تحرُّرية”، ذلك الوصف الذي يحمل حساسية خاصة لدى الولايات المتحدة ، كإحدى الدول المحاربة للحركات الجهادية حول العام، بما فيها تنظيم داعش والقاعدة في أفغانستان وسوريا والعراق.

وأدت معارضة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى تبدل التحالفات السياسية بين العديد من الجهات الفاعلة المشاركة في الصراع السوري، حيث بدت الدول العربية والإسلامية ونظام الأسد وتركيا وإيران وروسيا أقرب سياسياً لبعضها البعض أكثر من أي وقت مضى خلال العقد الماضي، عدا عن ذلك، شتت هجوم حماس يوم 7 أكتوبر والحرب اللاحقة، التركيز الدولي المتضائل أساساً حول سوريا، وهو ما يبدو بأنّه سمح للقوات السورية والروسية باستكمال تنفيذ هجمات مميتة ضدّ المدنيين في منطقة إدلب شمال غربي سوريا التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة الإسلامية حتى يوم 27 أكتوبر، مع بداية انشغال العالم الفعلي بحرب غزة وغض طرف تركي واضح على تلك الهجمات.

وضع معيشي صعب
وضع معيشي صعب

وفيما وجدت القوات الأميركية في المنطقة نفسها تحت وابل من الهجمات التي نفذتها أذرع إيران العسكرية وميليشياتها العاملة بالوكالة، خاصة تلك النشطة في العراق وسوريا. في غضون ذلك كانت المناطق الخاضعة للقوات الكردية، حليفة واشنطن الأساسية في حربها ضد داعش، تحت عملية انتقام منها مرة أخرى، من قبل الطيران الحربي التركي، عبر حملة جويّة وحشية استهدفت البنى التحتية ومصادر الطاقة، وأثّرت بشكل خاص على السكان المدنيين من الكرد والعرب، بذريعة هجوم مسلحين على وزارة الداخلية التركية بداية أكتوبر، من مناطق شمال شرق سوريا، وهو ما نفاه القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي.

ومن المؤكّد أنّ الهجمات المتكررة على قواعد التحالف الدولي من قبل الميليشيات المرتبطة بإيران انطلاقاً من سوريا والعراق، والقصف التركي المتعمّد على البنية التحتية في شمال شرق سوريا، يسهمان جنباً إلى جنب في تقويض الاستقرار بالمناطق المحررة من تنظيم داعش.

وعلاوة على ذلك، جعل التهديد المتكرر، ومقتل عدد من القوات الأميركية مؤخرا، استمرار الوجود البري في المنطقة أمرًا غير مستساغ بالنسبة إلى  المشرعين الأميركيين، الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، فعقب جميع تلك الأحداث، طُرح مشروع قانون في مجلس النواب الأميركي يطالب بخروج القوات الأميركية من سوريا. ورغم عدم مرور القانون، لا يبدو أنّ هذه المحاولة سوف تكون الأخيرة، وسط زيادة الأصوات في العاصمة واشنطن، القائلة بضرورة التحضير لأي انسحاب أميركي من سوريا والعراق.

وإلى جانب الهجمات المتكررة لميليشيات إيران على قواعد التحالف الدولي وقوات البيشمركة الكردية وقسد، والتقويض التركي المستمر لأي عملية استقرار في شمال شرق سوريا، لا يلوح في الأفق سوى مستقبل قاتم مليء بالدم، واستمرار للحرب بالوكالة على الأرض السورية، وهو ما سيتسبب في المزيد من التجويع والقتل والتدمير والنزوح الداخلي للسوريين/ات، وتواصل موجات اللجوء نحو القارة الأوروبية. ومن ثمّ، فإنّ غياب مناخ دولي مناسب وناضج لإجراء تسوية دولية ومحادثات سلام أكثر جدية، سيجعل الانتقال إلى نظام ديمقراطي شامل صعب المنال.

وفي الوقت عينه، من المرجح أن يؤدي الانقسام الجغرافي في المناطق التي تقع تحت سيطرة الفصائل المتنافسة إلى تآكل “الهوية السورية”، وربّما الاضمحلال، وهي التي أصبحت أولى ضحايا النزاع السوري، فبعدما يزيد عن عقدٍ من النزاع، تعززت هويات فرعية على حساب الهوية الوطنية السورية، فلم “تشكل الوطنية السورية انتماء جامعاً قادراً على الصمود في وجه الانتماءات الهوياتية الأخرى”. وعلاوة على ذلك، فقد شهدت سوريا خلال سنوات الحرب ممارسات أفضت بحسب آراء عديدة إلى “تجييش الهويات الفردية والجمعية وتحويلها إلى أداة للصراع”.

ظلام سياسي دامس
ظلام سياسي دامس

وفي ذات الوقت، تفرض “فترة الانتظار” هذه، ثقلها على الجانب المدني في النضال السوري، حيث يتم اختزال مهمة المجتمع المدني داخل سوريا بلعب دور “المنفّذ” والوسيط المحلّي لتوزيع للمساعدات الإنسانية، على حساب دوره في المناصرة للديمقراطية وحقوق الإنسان والرقابة والدفع باتجاه الوصول إلى نظام ديمقراطي يحتوي الجميع، فيما يجد المجتمع المدني السوري نفسه في الشتات مركزاً بشكل شبه وحيد على تحقيق نجاحات تكتيكية من خلال ملف المحاسبة، والمفقودين.

وبينما تحاول مقاربات أخرى إبقاء الضغط السياسي على النظام السوري قائماً، ومنع أي عملية “تطبيع” حقيقية، وسط تعب المانحين وظهور نزاعات دولية جديدة تنتقل إليها دائرة الضوء بعيداً عن سوريا، ينتظر السوريون في داخل البلاد ودول اللجوء معجزة حقيقية، خاصة مع التدويل الشديد لقضيتهم وانشغال العالم بحرب غزة، والصراع في أوكرانيا، والهجمات الحوثية المتكررة على السفن التجارية وتأثيرها على خطوط الإمداد، والنزاع في السودان، والأهم، ترقّب وانشغال إدارة بايدن بالانتخابات القادمة.

ومع ذلك، وحتى مع الاهتمام المحدود بسوريا في الوقت الراهن، لا تزال هناك بعض الخيارات المتوفرة للعمل على تحسين حياة السوريين.

وإلى حين نضوج توافق دولي حول سوريا، تستطيع الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى جانب المنظمات الأممية، منع تفاقم النزاع والأزمة الإنسانية، من خلال الضغط الحقيقي لوقف التصعيد العسكري في عموم سوريا، وتخفيف معاناة السوريين من خلال إيقاف استهداف البنية التحتية المتهالكة.

ومن ثم، ستساهم تلك الإجراءات في منع سوريا من أن تصبح ملاذاً آمناً للتطرف، وستساعد بالضرورة في بناء هوية سورية متنوعة.

وعلاوة على ذلك، يمكن معالجة التحديات الاقتصادية التي تواجهها سوريا جزئياً من خلال التعاطي بشكل جدّي مع قضية “الامتثال المفرط للعقوبات“ عن طريق إنشاء آلية إنسانية من أجل القيام بمهام دورية لتقييم العقوبات/الإجراءات الأحادية، ومحاولة تخفيف آثارها على السكان المدنيين.

وبالتوازي مع تلك الإجراءات، يجب دعم حراك ديمقراطي سوري سياسي مستقل وعابر للجغرافيا، يمكّن الدول الغربية والهيئات الدولية من أن تضمن حصول المواطنين السوريين على حقوقهم وأن تكون لهم الكلمة الأخيرة في تأمين مستقبل سلمي ومزدهر لبلادهم في نهاية المطاف، على ألا تتيح هذه الإجراءات تسلّط القوى الدولية والإقليمية على القرار السوري ومصادرته.

6