الانسحابات الأميركية: استقالة شرطي العالم تفتح الباب لـ"المخربين"

القوى الخليجية تطور عقيدتها الدفاعية الذاتية، وروسيا والصين ليستا بديلا مثاليا عن الولايات المتحدة.
الجمعة 2018/12/28
استعراض قوة بشكل مختلف

فُهم من الانسحاب الأميركي من سوريا وأفغانستان بأنه بمثابة إعلان انتصار للأطراف الدولية الأخرى الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط كروسيا وإيران وتركيا. هذا التشخيص المتفق عليه كثيرا في صفوف المراقبين ترافقه أيضا تقييمات أخرى لا تقدّم المسألة من زاوية من الرابح ومن الخاسر، بل تطرح المشكل الأعمق المتمثّل في تداعيات هذه الانسحابات الأميركية على أمن العالم وعلى أمن بلدان منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل تمسك الرئيس الأميركي مؤخرا بأن دور الولايات المتحدة كشرطي للعالم انتهى.

واشنطن - يتواصل الجدل بشأن السياسات الخارجية الأميركية التي يسطّرها الرئيس دونالد ترامب لا فقط في الولايات المتحدة وتحديدا لدى خصومه الديمقراطيين أو شقّ آخر من الجمهوريين، بل أخذت المسألة طابعا دوليا لما تمثّله الانسحابات العسكرية لواشنطن من سوريا أو من أفغانستان من مخاطر على أمن العالم عامة وعلى مستقبل بعض دول منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، وما يتطلبه ذلك من تفعيل لسياسة الاعتماد على الذات وتطوير للعقيدة الدفاعية الذاتية.

الثابت وفق العديد من المراقبين، أن الخطوة الأميركية الأخيرة في سوريا منحت ضوءا أخضر لبعض القوى الدولية الأخرى كتركيا للتفرّد بالملف السوري ولمهاجمة الأكراد، علاوة على ما سيخلّفه أيضا ذلك من تعبيد طريق لإيران وروسيا لتقوية نفوذهما في المنطقة، لكن ما هو ليس ثابتا لا يتعلّق بسوريا في حدّ ذاتها بل بأمن المنطقة عقب تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط.

لم يعُد من قبيل التكهّنات أن واشنطن لا تصنع سياساتها الخارجية إلا بالارتكاز على ما ستغنم، وكل هذا أثبتته الخطوة في سوريا، بالإضافة إلى الإعلان الصريح من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال زيارته المثيرة للجدل إلى العراق أن مهمة الولايات المتحدة كشرطي للعالم قد انتهت. ويعتبر المراقبون أن نهاية عام 2018 بهذه الطريقة التي تقلّص فيها الولايات المتحدة من نفوذها العسكري في منطقة الشرق الأوسط ينذر بمزيد من الفوضى والتوترات في المنطقة لأن خطوات واشنطن باتت تفهم كما لو أنها كانت دعوة مبطّنة إلى المتربصين كإيران أو أنقرة للعبث بأمن واستقرار بلدانها.

انسحابات غير مدروسة
انسحابات غير مدروسة

تأجيج الوضع

 على عكس ما يذهب إليه البعض، فإن هذا الحياد الأميركي عن سكة سياسات واشنطن الكلاسيكية، لن يكون له أثر أو تداعيات كبرى على دول المنطقة أو دول الخليج فحسب، بل ستكون بداية لتأجيج الوضع في العالم على اعتبار أن المنطقة تؤمن ثروات نفطية كبرى للعالم. لكن سياسات ترامب، تستدعي أيضا العديد من البلدان، وخاصة القوى الخليجية، المؤثرة في المنطقة، لوجوب اتخاذ الحذر من تطورات قادمة خاصة من قبل إيران التي قد تعمّق تحركاتها لمزيد مدّ نفوذها ودعم ميليشياتها في العراق وفي سوريا ولبنان واليمن بالأسلحة.

ويؤكد المحلل السياسي الأميركي جيمس دورسي على أن مقولات ترامب التي صعد بها خلال حملاته الانتخابية من خلال قرارات انسحابات القوات الأميركية المعلنة من سوريا وأفغانستان بأن “العالم مكان خطير” لم تعُد لها أيّ مصداقية. وبحسب دورسي فقد نتج عن انسحابات القوات عقب إشادة ترامب باستعداد السعودية لإعادة الإعمار في سوريا، التأكيد على أن تحركات ترامب تفتقد للاهتمامات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. ويشير دورسي إلى أن انسحاب القوات الأميركية من سوريا ستكون له تداعيات على أمن دول الخليج العربي بعدما خسروا حليفا أميركيا يعتمدون عليه، لكن في الوقت نفسه هذه البلدان باتت قادرة على حماية مصالحها بنفسها دون البحث عن فكرة حليف جديد كروسيا.

جيمس دورسي: الفراغ الذي خلقه ترامب يخاطر بتأجيج المزيد من القلق مع عواقب فوضوية
جيمس دورسي: الفراغ الذي خلقه ترامب يخاطر بتأجيج المزيد من القلق مع عواقب فوضوية

ويستحضر المراقبون هنا، ما حدث في مارس 2015، في اليمن، عندما أعلن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، عاصفة الحزم، التي قدّمت صورة جديدة للسعودية صاحبة القرار المستقلّ عن الإملاءات الأميركية. ويستند الخبراء إلى هذه التجربة لحثّ القوى الخليجية، وبشكل خاص السعودية والإمارات، على تفعيل هذه الاستراتيجيات الدفاعية، خاصة وأن محاولة الاعتماد على حلفاء بدائل، مثل روسيا، لن يكون أمرا ناجعا لحماية مصالحها مثلما كان الأمر مع الولايات المتحدة.

ويقرّ العارفون بخبايا وكواليس ترامب، الذي غيرّ نسق السياسات الأميركية حتى من دون استشارة أقرب معاونيه ومساعديه في البيت الأبيض، خلال إعلان سحب قوات بلاده من سوريا، أن واشنطن لم تنجح في عهده في علاقة بقضايا منطقة الشرق الأوسط إلا في مزيد تضييق الخناق على إيران بالعقوبات أو الانسحاب من المعاهدة النووية، لكن كل هذا قد يسقط في الماء مع استعداد ترامب لمنح مفاتيح المنطقة للقوى العظمى الأخرى.

وفهم من بعض التحركات الأخيرة، أن دول الخليج العربي ستغيّر من نسق علاقاتها في المنطقة مع استعداد الإمارات لإعادة فتح سفارتها في دمشق، ومشاركة السعودية في إعادة إعمار سوريا، وهنا يشير المحلل البريطاني في الشؤون العراقية والسورية باتريك كوكبرن، “تشهد الدولة السورية نفوذا إيرانيّا، لكن مع مرور الوقت واشتداد عود الدولة مرة أخرى سيقل احتياجها لحلفاء خارجيين”، لكن الأمر يحتاج، وفق المحللة السياسية الأميركية الإيرانية، کاملیا انتخابي فرد، إعطاء مساحة حتى للجيران العرب للمشاركة في هذه المرحلة الانتقالية في الملف السوري.

وأدركت السعودية والإمارات أن الأمور تتجه نحو تسليم واشنطن منطقة الشرق الأوسط لقوى أخرى ستعبث بأمنها لذلك اعتمدا سياسات دفاعية متطورة تعتمد بشكل خاص على الذاتية والاستقلالية، لتوفير الممهدات لحماية أمنها وأمن المنطقة عموما.

بالنسبة إلى السعودية مثلا، أدركت أن التعويل على القوى الأجنبية غير مضمون في وقت مازالت فيه مخاطر المدّ الإيراني متواصلة، وهي تراهن ضمن برنامج رؤية السعودية 2030 على تنويع اقتصادها وتطوير دفاعاتها الداخلية والخارجية، من حيث رفاه المجتمع وترفيهه، ومن حيث تحسين العلاقات مع دول الجوار، والعودة إلى لعب دورها في العالم الإسلامي ووصولا إلى المنطقة الأفريقية، بعد أن تراجع إثر أحدث 11 سبتمبر 2001. كما يدخل ضمن هذه الرؤية الطموحة توطين صناعة السلاح تجنّبا للاعتماد على الأسواق الأجنبية، وتأهبا إلى أيّ تغيرات قد تطرأ على منطقة الشرق الأوسط.

من جانبها، راهنت الإمارات أيضا في السنوات الأخيرة على دعم سياساتها الخارجية، بتنويع الحلفاء، وتطوير عقيدتها العسكرية، عبر الارتقاء بالقدرات الدفاعية للبلاد من مختلف الجوانب، في إطار التعويل على الذّات في الدفاع عن المجال وحمايته، بدلا عن التعويل على التحالفات الدولية، في ظل ظروف متغيّرة بالمنطقة وتصاعد للصراعات والتهديدات. وكان التزوّد بأحدث الأسلحة والنظم العسكرية ضمن أولويات هذا الجهد، حيث توجّهت الإمارات بشكل واضح نحو تنويع شركائها العالميين في المجال لاقتناء أجود منتجاتهم وبما يناسب حاجتها لحماية مجالها ومصالحها.

مصالح شخصية

أي تداعيات للانسحاب الأميركي
أي تداعيات للانسحاب الأميركي

ما يؤكّد أن سياسات ترامب الخارجية قائمة على مصالح شخصية ومغانم سياسية، ويمنح القوى الإقليمية كل الحق في البحث عن بدائل لحماية مصالحها، منح الرئيس الأميركي إعفاءات لمشتري النفط الإيراني وكذلك للاستثمار الهندي في ميناء تشابهار الإيراني، الذي تنظر إليه السعودية والإمارات كتهديد لمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية.

أما بشأن مستقبل أدوار القوى الثلاث الكبرى في العالم، أوروبا وروسيا والصين، في المنطقة التي تمتلك قوات هائلة، فإنها تفتقر إلى القدرة على أن تحلّ محلّ الولايات المتحدة وأن تصبح جدار حماية لدول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط والعالم.

ورغم أن روسيا، حليفة إيران، تحرص على بيع الأسلحة إلى دول الخليج العربي، مستغلّة الفراغات التي أوجدتها السياسة الأميركية، فإنها لن تكون قادرة على أن تحلّ محلّ الولايات المتحدة في المنطقة، وفق قراءة جيمس دورسي، الذي ينقل عن خبيرة الطاقة لي تشين سيم “إن الخليج ليس محوراً رئيسيّا للسياسة الخارجية الروسية. لا أرى أن الروس يستفيدون كثيرا من المشاكل بين السعوديين والأميركيين من أجل القيام بدور أمني أكبر”.

وعلى نفس المنوال، لا تملك الصين القدرة ولا الرغبة في أن تحلّ محلّ الولايات المتحدة في الخليج. بل على العكس، فضّلت الصين أن تستفيد من الحماية الإقليمية للولايات المتحدة، لذلك يرى المراقبون أنّ ترك واشنطن لمكانتها في الشرق الأوسط واستقالتها من دور “شرطي العالم” ستكون له تداعيات كبرى على أمن العالم بأسره، حيث ستفتح الباب أمام “المخربين” من دول وتنظيمات وجماعات تمارس مختلف أنواع الإرهاب والترهيب والفوضى.

6