الانحياز إلى الذكور يشوه التركيبة السكانية عربيا

في بعض أنحاء العالم يعد إنجاب الصبي سببا للاحتفال، أما إنجاب البنت فقد يسبب الإحباط. إذ ينظر إليها أنها عالة أو عائق أمام مستقبل الأسرة. وربما تعرضت للنسيان والتجاهل وسوء التغذية. وقد تموت من الإهمال أو من اختيارات أخرى متعمدة، وجميعها تدخل في إطار ممارسات الاختيار المتحيز لجنس الجنين عقب الولادة.
لندن - سجل تقرير حالة سكان العالم 2020 والصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان بعنوان “ضد إرادتي… تحدي الممارسات التي تضر بالنساء والفتيات وتقوض المساواة”، في الفترة بين 1979 و2020 أن هناك 140 مليون أنثى عبر العالم في عداد المفقودات بسبب الاختيار المتحيز لجنس الجنين.
وتروي سيدة أردنية “كنت حاملا وفي إحدى مرات الكشف بالموجات فوق الصوتية أخبرتني الطبيبة أنني لست حاملا بجنين واحد بل بثلاث فتيات وعندما أخبرت أمي قالت لي مادمت أنا تمكنت من تربية البنات فبمقدورك القيام بذلك”، لكن زوجها لم يقدم لها الدعم وخيرها بين الإجهاض التقليدي أو الطلاق. تقول السيدة “انتابني الخوف لكن الله ألهمني القوة لرفض الإجهاض فقلت لا”، وتؤكد “لم ألتفت ورائي البتة بعد ذلك. لم يكن من السهل تربية ثلاث بنات وتعليمهن لكنني اصطحبت العزم والإرادة في كل مرة عملت كل شيء لأجلهن لقد تفوقت بناتي وجلبن لي الفخر وحصلن على شهادات جامعية”.
وتقول الفتيات “نحن فخورات أيّما فخر بما خاضته أمنا لأجلنا”.
وفي مجتمع لا يزال مهووسا بشدة بتفضيل البنين تعد هذه السيدة مثالا حيا للاعتداد والفخر بين النساء.
مفقودات
عربيا تشهد البحرين ومصر والأردن وفيات مفرطة للإناث. ورغم شح البيانات عن ظاهرة تفضيل جنس الجنين في المنطقة العربية، إلا أن تقديرات مواليد الإناث المفقودات بسبب اختيار جنس الجنين المتحيز قبل الولادة في تونس مثلا بلغت نحو 1400 خلال خمس سنوات (2013 – 2017)، ولكن تونس التي كانت ذات يوم تعاني من اختلالات في نسبة النوع الاجتماعي تعتبر اليوم نسب جنس الجنين عند الولادة فيها قريبة من المستوى الطبيعي.
وتُعزى وفيات بعض الفتيات إلى الإهمال وأشكال أخرى من الاختيار المتحيز لجنس الجنين بعد الولادة، ففي مصر قدرت في عام 2012 زيادة معدل وفيات الإناث دون سن الخامسة الناجمة عن هذه الممارسات بـ2.4 في المئة لكل 1000 ولادة من مجمل وفيات الفتيات دون الخامسة التي بلغت 5.6 في المئة. وفي الأردن بلغت النسبة 1.9 في المئة من مجمل وفيات الفتيات دون الخامسة التي بلغت 5.0 في المئة.
الخلل في نسب الذكور والإناث له تبعات حالية سيئة وتبعات أخرى طويلة الأمد ضمن المجتمعات، وفق خبراء
ورغم كل ما اتخذ من إجراءات والبذل من جهود لمواجهة هذه الممارسة الخطيرة، إلا أن 4.1 مليون فتاة وامرأة تبقى عرضة لتلك الممارسة في 2020 وحدها. بينما هناك 200 مليون امراة على قيد الحياة اليوم تعرضن لهذه الممارسة.
وارتفعت وفيات الإناث المفرطة عالميا بين السبعينات والتسعينات فبلغت مليوني وفاة سنويا استنادا إلى بحث صادر عن الأمم المتحدة ثم تراجعت النسبة في الألفينات وربما أمكن عزو التراجع في الوفيات المفرطة للإناث بعد ذلك إلى التوسع في إتاحة التصوير بالموجات فوق الصوتية وغيرها من التقنيات التي أدت إلى زيادة انتقاء النوع المتحيز جنسيا.
ويؤكد بحث أن عدد الإناث المفقودات بسبب هذه الممارسات اعتبارا من عام 2015 كان أكبر من عدد أولئك اللاتي فقدن جراء انتقاء النوع بعد الولادة.
ويُعتبر القاسم المشترك هنا التمييز الجندري، من تفضيل الذكور الشائع إلى المخاوف العملية من أن الذكور أكثر قابلية لدعم آبائهم في سن الشيخوخة وإنجاب الأحفاد، في حين يُتوقع ذهاب الإناث للعيش مع أزواجهن كحال كل دول العالم. ولا يعتبر تفضيل الأبوين لإنجاب الذكور مستغربا في واقع تفتقر فيه المرأة إلى الحقوق المتساوية ويترسّخ فيه المجتمع الأبوي.
اختلال توازن
في قائمة أكثر دول العالم التي يزداد فيها عدد الرجال عن النساء نجد أن هناك 6 دول خليجية تتصدر المراكز الستة الأولى. تأتي الإمارات في المركز الأول عالميا من حيث زيادة نسبة الذكور عن الإناث. وتبلغ هذه النسبة 2.19 رجل مقابل كل امرأة. معنى ذلك أن عدد الرجال في الإمارات يكون أكثر من ضعف عدد النساء. وتأتي قطر في المركز الثاني عالميا تبلغ هذه النسبة رجلين لكل امرأة معنى ذلك أن عدد الرجال في قطر ضعف عدد النساء.
وتحل الكويت في المركز الثالث عالميا بنسبة 1.54 رجل لكل امرأة أما البحرين فتأتي في المركز الرابع عالميا بنسبة 1.24 رجل لكل امرأة فيما تحتل عمان المركز الخامس عالميا بنسبة 1.22 رجل لكل امرأة. وتأتي السعودية في المركز السادس عالميا بنسبة 1.18 رجل لكل امرأة.
ويفيد موقع “هير بيوتي” الأميركي أن الرجال في مصر يعانون مشكلة في العثور على زوجة، نظرا لقلة عدد النساء المتوفرات للزواج لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية. وذلك يعود إلى الكثافة السكانية وهجرة النساء اللاتي يمتلكن المؤهلات العلمية والشهادات الجامعية ويطمحن للعمل في مجالات العلوم والطب والقانون وكسر النمطية التي يفرضها المجتمع الذكوري.
وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر قال العام الماضي إن عدد المصريين بالداخل بلغ 98 مليون نسمة، منهم 50.5 مليون نسمة للذكور بنسبة 51.5 في المئة، و47.5 مليون نسمة للإناث بنسبة 48.5 في المئة.
وبشكل آخر، هناك 106.3 ذكر لكل 100 أنثى داخل مصر.
وبحسب إحصاء أجراه البنك الدولي في 2016، فإن نسبة الإناث في تونس هي 50.6 في المئة. ولطالما شهد تعداد الرجال والنساء مجموعة من التقلبات على مر التاريخ.
واستدرك موقع “هير بيوتي “بعض البلدان تشهد فجوة في هذا الخصوص”، مُرجعا هذا “الخلل السكاني” لعدة أسباب منها المعاملة العنيفة للمرأة والحروب التي أدت إلى هجرات جماعية وعدم المساواة بين الجنسين التي دفعت النساء إلى مغادرة بلدانهن الأصلية للحصول على فرص أفضل.
وذكر الموقع أن ليبيا تعاني من هذه المشكلة خصوصا بسبب الحرب الأهلية طويلة المدى التي أدت إلى هجرة نسبة كبيرة من النساء المستضعفات، إضافة إلى الضوابط الاجتماعية المقيدة لحرية المرأة في المجتمع الليبي، التي تسببت في عدم ميول المواطنات الليبيات للزواج بالرجال الليبيين.
تشويه التركيبة السكانية
تشير جمعية معهد تضامن النساء الأردني “تضامن” في تقرير إلى أن الفكر الذكوري يسعى الى إذكاء فكرة حمل البنين لمستقبل الأسرة وتلقن الفتيات أن مستقبلهن في نهاية المطاف متوقف على أزواجهن. وتحط الحالة الانتقالية للفتاة من الاعتماد على أسرتها إلى الاعتماد على زوجها وأسرته من قيمة الفتاة الاجتماعية ومن مساهمتها في الأسرة التي ولدت بها. كما تتحدد السلوكيات الاجتماعية بتلك الأعراف والتقاليد، وتشجع على إنجاب الذكور حرصا على استمرار نسل الأسرة.
وتضيف “تضامن” أن هذه الممارسة الضارة أدت إلى اعتبار 140 مليون أنثى في عداد المفقودات جراء الاختيار المتحيز لجنس الجنين، وأدت إلى تشويه التركيبة السكانية في الكثير من دول العالم، الأمر الذي يمكن ملاحظته من زيادة الاختلال بنسبة المواليد لكلا الجنسين.
ووفقا لدائرة الإحصاءات العامة، فإن عدد سكان الأردن المقدر لنهاية عام 2019 بلغ 10.554 مليون نسمة، من بينهم 7.455 مليون نسمة أعمارهم دون 35 عاما.
ويلاحظ أن عدد الذكور أقل من 35 عاما يبلغ 3.933 مليون ذكر مقابل 3.521 مليون أنثى وبفارق لصالح الذكور يقدر بحوالي 412 ألف ذكر وبنسبة 11.7 في المئة. وهذا مؤشر على بداية تأثير تحديد الجنس قبل الولادة على ارتفاع نسبة الذكور كما يؤدي إلى تناقص عدد الإناث مما ينذر بمشكلات ديموغرافية مستقبلية تخل بالتوازن الطبيعي بين الجنسين.
وقد أتاح التقدم التكنولوجي في المجال الطبي إمكانية تحديد جنس المولود قبل الولادة إضافة إلى تدني كلفة هذه التكنولوجيا وتوفرها في معظم دول العالم، والتوجه نحو أسر قليلة العدد لا يتجاوز عدد أفرادها ثلاثة أو أربعة أشخاص لأسباب مختلفة ومتعددة، إضافة إلى التقاليد والعادات التي ترسخ التمييز ضد الإناث من خلال تفضيل المواليد الذكور، كلها تشكل عوامل مترابطة تؤدي إلى تزايد عدد الإناث ضحايا تحديد جنس المولود، وتؤدي على المدى الطويل إلى إخلال في التركيبة السكانية للمجتمعات مما يرتّب آثارا لا يمكن تداركها إذا لم يتنبه العالم إلى خطورة ذلك.
وكان مجلس الإفتاء الأردني وبقراره رقم (120)(5/2008) والصادر بتاريخ 10/7/2008 قد حرَم هذا النوع من العمليات التي تحدد جنس الجنين.
وفي الوقت الذي لا تكون فيه معارضة قوية بين الأسر لعدم وجود إناث إذا كان هنالك ذكور، إلا أن هذه المعارضة تتسع لتصل إلى درجة تحديد الجنس في حال عدم وجود ذكور أو كانت الولادات الأولى هي من الإناث، في حين لا تكترث الأسر بمسألة تحديد جنس المولود ليكون أنثى في حال وجود ذكور في الأسرة الواحدة وعدم وجود إناث.
وتؤكد “تضامن” أن ذلك كله يعد انتهاكا لحقوق النساء التي أقرتها الاتفاقيات الدولية وترسيخا للتمييز وعدم المساواة بين الجنسين. كما أنه يتعارض مع ما اعتمدته 184 دولة بما فيها الأردن خلال المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام 1994 والذي عرّف الحقوق الإنجابية وأعطى الحق للأفراد رجالا ونساء في تحديد اختياراتهم الإنجابية بحرية ولكن دون تمييز.
وتشير “تضامن” أن تحديد جنس الجنين قبل الولادة والإهمال والإنكار بعد الولادة للإناث تشكل عقبة جديدة وجدية أمام مساعي تحقيق المساواة بين الجنسين، ونواة لزعزعة التوازن السكاني للمجتمع على المدى الطويل.
ويقول المدير الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان للدول العربية لؤي شبانة “لقد آن الوقت للتعامل مع الحظوة الظالمة التي يتمتع بها الذكور على حساب الإناث، لقد وصلت هذه الحظوة لدرجة تدفع كثيرا من الأسر لاتخاذ كل ما يلزم من ممارسات لتحاشي إنجاب أنثى، وحتى إذا أنجبت، يتم إهمال رعايتها وصحتها لفائدة الذكر… هذا التفضيل يجاهر به علنا وتحتفل الأسر بإنجاب الذكور فيما يرهقها عدم الرضى واستهجانات المحيطين من ذوي القربى والمجتمع في حال كان المولود أنثى”.
وما يدعو للسخرية هو أنّ النساء خاسرات في الحالتين: سواء كان عددهن أعلى من عدد الرجال أو كان أقلّ. لكن، في الواقع، جميعنا خاسرون. نعلم أنه تترتب على الخلل في نسب الذكور والإناث تبعات حالية سيئة وتبعات أخرى طويلة الأمد ضمن المجتمعات.