الانتخابات المحلية و"الظاهرة الريفية".. أخطاء السلطة ومطالب الشارع

الخميس 2016/06/09
ريفي يعتبر أن انتفاضته هي عودة إلى قيم 14 آذار

بيروت -إذا كان تأجيل الاستحقاقات الانتخابية قد طبع سياسات قوى ائتلاف السلطة في لبنان في المرحلة السابقة، فإن الانتخابات المحلية فرضت نفسها لأسباب عدة ربما في مقدمتها الرغبة في تلمّس توجهات قواعدها الشعبية المفترضة بعد سيل الفضائح الذي أنجزته ثم تمكنها من إسكات الشارع، ولو مؤقتا، بما تمتلك من أسلحة التفرقة والتهويل.

وليس غريبا على هذه القوى أن تأتلف كلما شعرت بأن أسهمها الشعبية في تراجع. وهكذا توحدت كل التيارات والأحزاب في بيروت لمواجهة المجتمع المدني المتمثل بلائحة “بيروت مدينتي”. وائتلف حزب الله مع حركة أمل لمواجهة اللوائح الأهلية والمدنية في المناطق الخاضعة لسطوتهما، وكل من التيار الوطني الحر (العوني) والقوات اللبنانية في مدن وقرى الجبل والشمال، ثم ائتلاف قوى السلطة ومن هم على حواشيها في مواجهة لائحة قرار طرابلس.

وعبّرت المدن الرئيسية عن اعتراضها بطريقتين متزامنتين: المشاركة الضعيفة في الاقتراع وترجمة هذا الاعتراض في الصناديق التي أفصحت عن مفاجآت بعضها من العيار الثقيل. وكان لافتا، في المرحلة الأولى، ما قدّمته مدينة عرسال المحاذية للحدود السورية، والتي تصفها قوى الممانعة وفي مقدمها حزب الله بأنها حاضنة للإرهاب التكفيري، حيث فازت اللائحة المنافسة للائحة تيار المستقبل، من نموذج ديمقراطي ومدني، بحيث فازت المرشحة ريما كرنبي متقدمة على جميع المرشحين من اللوائح الثلاث المتنافسة. وإذا كانت مدينة طرابلس قد حقّقت الإنجاز الأضخم في هذا الاتجاه، فإن قرى كبيرة شهدت أيضا ما يشبه الانقلاب بحيث أسقطت الصناديق قوى مارست سيطرتها وسطوتها لعقود، حيث لم تتمكن القوى المعترضة من إسقاط قوى السلطة، وجاءت الرسائل قوية متوعدة.

انتفاضة طرابلس البلدية

مدينة طرابلس أفقر مدينة على البحر المتوسط. عانت الأمرين من جولات المعارك والاشتباكات التي استمرّت أعواما ما ضاعف من بؤس مواطنيها وأضاف إلى هزال بناها التحتية خرابا، حيث البطالة تأكل شبابها والفقر لم يترك أمامهم خيارا، في حين أن من يسمون زعماء طرابلس والذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين يعدون من أغنى أثرياء العالم. وهؤلاء هم رعاة بلدية طرابلس على مدى 18 سنة. وقد أهملت المجالس البلدية التي استندت إلى دعم هؤلاء تماما واجباتها وزادت على أبناء المدينة فوق أعبائهم أعباء.

مدينة طرابلس عانت الأمرين من جولات المعارك والاشتباكات التي استمرّت أعواما ما ضاعف من بؤس مواطنيها وأضاف إلى هزال بناها التحتية خرابا، حيث البطالة تأكل شبابها والفقر لم يترك أمامهم خيارا

وحين تأتلف في لائحة واحدة كل قوى التسلط ورؤوس الأمـــوال والأحزاب السياسية ابتداء من الجماعة الإسلامية مرورا بالأحباش إلى الحزب العربي الديمقراطي المؤيد لحزب الله وبشار الأسد إلى تيار المستقبل ونجيب ميقاتي والصفدي، فإن هذا الائتلاف لن يكون إلا في مواجهة قرار طرابلس.

ورغم الماكينة الانتخابية الضخمة التي شكلها هؤلاء مجتمعين ومدعومين من كافة قوى السلطة المؤثرة التي لا وجود فاعلا لها في المدينة، والملايين من الدولارات التي بذلت في عملية تعبئة ضخمة، إلا نسبة الاقتراع في المدينة لم تتعد الـ26 بالمئة. وكانت المفاجأة الصادمة للجميع فوز اللائحة المقابلة المدعومة من الوزير أشرف ريفي، بغالبية ساحقة (16 مقعدا في مقابل 8) رغم ضعف الخبرة وندرة الإمكانيات.

وهذه النتائج التي غطت على ما سبقها في مختلف مراحل الانتخابات البلدية السابقة، رغم التقدم الذي حققته لوائح الاعتراض الشعبي والرسائل السياسية التي بعثتها في مختلف الاتجاهات باتت الشغل الشاغل لجميع قوى السلطة. والكل يحاول ترجمتها بالطريقة التي يريد، في محاولات لتطويق الحالة الشعبية التي عبرت عنها هذه النتائج، خصوصا أن الاستحقاق البلدي أسقط جميع حجج تلك القوى التي تذرعت بها لتأجيل الاستحقاقات الانتخابية النيابية والرئاسية.

أشرف ريفي، الضابط المتقاعد ووزير العدل في حكومة تمام سلام، الذي قدّم استقالته على خلفية قضية ميشال سماحة بعد أن امتنع مجلس الوزراء عن إحالة ملفها إلى المجلس العدلي، شكّل ظاهرة نافرة في الساحة اللبنانية لم يتمكن سعد الحريري وتيار المستقبل من تحملها. ووصل أشرف ريفي في مقارعته حزب الله والمتواطئين معه والمتغاضين عن سياساته في الكثير من الملفات: حربه على الشعب السوري، موقفه من قضية سماحة، هيمنته على وزارة الخارجية عبر حليفه الجنرال عون ووزير خارجيته جبران باسيل وما اتخذه من مواقف في السياسة الخارجية. ووصل إلى حد الاستقالة من الحكومة. ما رفع من رصيده على الساحة الطرابلسية المناوئة للنظام الأسدي منذ مطلع الثمانينات.

وجاء دعم أشرف ريفي للائحة قرار طرابلس في وجه محدلة قوى السلطة مجتمعة ليزيد في رصيدها ويشجع مهمشي أحيائها الفقيرة، التي طالما حُسبت على تيار المستقبل، على الاقتراع لمصلحتها. أشرف ريفي نفسه فوجئ بفوز لائحته. فبادر إلى إرسال رسائل في جميع الاتجاهات، بداية من قوى المجتمع المدني الاعتراضية وإلى قوى 14 آذار، معتبرا أن انتفاضته هي عودة إلى قيم ومبادئ 14 آذار. ثم إلى حزب الله وحلفائه في 8 آذار بأنه لن يتهاون مع الدويلة التي هيمنت على الدولة.

ورغم أن لائحة ريفي قد اشتملت على كل الطيف الطرابلسي، فإن من اختارهم من العلويين والمسيحيين قد خسروا لصالح مرشحين سنة من اللائحة المقابلة. وكانت هذه الثغرة مناسبة لخصومه وخصوصا حزب الله، لوسم هذه الظاهرة بالتطرف.

ظاهرة أشرف ريفي تشبه ظاهرة مقتدى الصدر وإن بشكل مصغر. يركب موجة مواجهة السلطة وهو ابنها وغير قادر على قطع الحبل السري معها

ردود فعل قوى السلطة

لم تكن حالة الاعتراض على قوى السلطة مجتمعة سهلة الهضم لديها، ولكن صدمة طرابلس حولت الأنظار، فعمدت هذه القوى إلى التعمية عما جرى في سائر المناطق من خلال التركيز عما جرى هناك تحديدا وربط هذه الظاهرة بالوزير أشرف ريفي وبالتالي وسمها بالتطرف.

ولكن ما لم يثر الكثير من الغبار، هو الجريمتان اللتان ارتكبتا بحق مدينة عرسال في ما يبدو عقابا لها على إنجازها الانتخابي. فكانت الجريمة الأولى بحق أحد أبنائها على يد والد أحد الجنود الذين أعدمتهم جبهة النصرة، بينما كانت الجريمة الثانية مقتل رجلين في بستانهما بإطلاق نار من مواقع حزب الله في الجرود. واللافت ما نشرته مواقع التواصل الاجتماعي عن مقاتلين لحزب الله في جرود القلمون يخاطبون الوزير أشرف ريفي ردا على مطالبته حزب الله بالخروج من سوريا بما معناه أن عودة حزب الله إلى لبنان ستكون عبر عرسال. ما يدلل على نوايا هذه الميليشيا حيال السلم الأهلي في لبنان ويؤكد على المخاوف التي تتهدده سواء عاد حزب الله من سوريا منتصرا أو مهزوما.

وجاءت نتائج الانتخابات البلدية عموما استكمالا للحراك الشعبي الذي انطلق صيف العام الماضي. وأشرف ريفي ليس ابن شارع منتفض، بل هو ابن النظام نفسه. ويحاول إعادة إنتاج 14 آذار على وقع الاعتراض الشعبي ضد القوى السياسية كافة.

وتشبه ظاهرة أشرف ريفي ظاهرة مقتدى الصدر وإن بشكل مصغر. يركب موجة مواجهة السلطة وهو ابنها وغير قادر على قطع الحبل السري معها. يحمل شعارات الشارع وينادي بالمواطنة والمساواة وهو غير قادر على التفلت من المذهبية، ينادي بالسيادة وهو غير قادر على التخلص من التبعية، يرفع سقف خطابه ضد السياسيين ثم يناورهم.

هذه الظاهرة مصيرها إما أن ترضى بنصيب في السلطة أو أن تذوي وتضمحل. ولا شك أن كافة قوى السلطة تحاول ضبط وحصار هذه الظاهرة ولكن بأساليب مختلفة.

فهي جميعا تحاول اختزال حالة الاعتراض الشعبي بالظاهرة الريفية ثم تسِمها بالتطرف. واختزال حركة الاعتراض الشعبي بالظاهرة الريفية هو أكبر خدمة يمكن أن تقدم للنظام. وبالتالي لا بد من وضعها في موضعها الصحيح وفهمها بالاستقلال عن محاولات توظيفها من قبل أشرف ريفي أو سواه.

والتركيز على طرابلس، واعتبار ما جرى ظاهرة ريفية ووسمها بالتطرف، هو ذر رماد في العيون واستدرار للمزيد من الاستقطاب المذهبي الذي يخدم تأبيد سيطرة هذه القوى وفي مقدمها حزب الله. الشارع يواجه مدنيا وقوى السلطة ترد مذهبيا وطائفيا “سنعود من سوريا ولكن عبر عرسال”.

كاتب لبناني
7