الانتخابات المحلية تؤسس لمرحلة جديدة داخل المشهد التركي

فوز المعارضة العلمانية ممثلة بحزب الشعب الجمهوري، المعارض الشرس للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، وفي مرحلة حرجة للغاية، في أنقرة وأنطاليا وإسطنبول ذات الأهمية الرمزية والإستراتيجية هي بمثابة صدمة كبيرة لأردوغان وحزبه، الذي يتوقع أن يترجم خسارته إلى حملات قمع أكبر مما سبق.
أنقرة - هل كانت الانتكاسة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية في تركيا حقا مفاجأة؟ لا يبدو الأمر كذلك على الأقل بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان يتوقع هذا الأمر منذ الانتخابات البرلمانية في 2016، حيث كان الفوز بنتيجة ضعيفة، وكان واضحا تبدّل مزاج الناخبين وأن هناك الملايين من الأصوات سيكون لها تأثيرها في الانتخابات المحليّة التي جرت الأحد، ومُني فيها العدالة والتنمية بخسارة غالبية المُدن، بما في ذلك أنقرة وأضنة وبورصة وأنطاليا وديار بكر وغيرها، أما الخسارة الأكبر فكانت إسطنبول، على نحو يؤسس لمرحلة جديدة داخل المشهد السياسي التركي.
تصدر حزب العدالة والتنمية الانتخابات المحلية في تركيا التي جرت يوم الأحد 31 مارس، لكنه خسر في أكبر ثلاثة مدن تركيا، هي أزمير وأنقرة واسطنبول، ليتلقى انتكاسة هي الأكبر في تاريخ الحزب على صعيد الانتخابات. وعلى الرغم من تحقيق العدالة والتنمية لمقاعد 16 بلدية كبرى و24 بلدية مدينة و538 بلديات أقضية، و200 بلدة، إلا أن هناك من اعتبره فوز بطعم الهزيمة.
كان أردوغان يتوقّع أن تكون الانتخابات صعبة، لكنه فوجئ وحزبه بحجم الانتكاسة التي أصيبا بها. وخلال الحملات الانتخابية، انعكس قلق أردوغان في خطابه الذي كان ينضح عداء وعنفا، حتى أنه لم يتوان عن التهديد بخرق القانون، حيث قال في إحدى خطبه في شمال شرق تركيا، مهدّدا الأكراد “إذا ما تمّ انتخاب حزب الشعوب الديمقراطي في المنطقة الجنوبية الشرقية التركية التي يسيطر عليها الأكراد، يمكن للدولة طرد ممثّليه وتعيين آخرين مكانهم”.
وكانت الحكومة التركية في سنة 2016، إثر عملية الانقلاب الفاشل، أقالت العشرات من العمد وعيّنت مكانهم مجالس للأمناء تابعين لها. لكن لم يعد يرعب هذا الخطاب العدائي الناخبين الذين ردّوا عليه بأن صوّتوا بأكثر من 60 بالمئة لمرشح حزب الشعوب الديمقراطي؛ وتكرر السيناريو في أكثر من مدينة، في حدث يقول مراقبون إنه مفصلي في تاريخ حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان.
وتأتي انتكاسة الأحد الانتخابية على خلفية خسارة الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، السيطرة على العاصمة أنقرة للمرة الأولى منذ تأسيس الحزب عام 2001 واتجاهه لخسارة الانتخابات في إسطنبول أكبر مدن البلاد.
وفي جنوب شرق تركيا الذي يغلب على سكانه الأكراد، احتفل السكان باستعادة حزب الشعوب الديمقراطي المعارض المؤيد للأكراد على بلديات التي سيطرت عليها السلطات في 2016، متهمة الحزب بأنه على “صلات بإرهابيين”.
مزاج انتخابي
يدرك الأتراك أن انتخابات الأحد لن تحقق أي تغيير كبير في التسلسل الهرمي السياسي للبلاد بعد ما عزز أردوغان سلطاته، وجعل البرلمان بلا سلطة تقريبا وملأ مؤسسات الدولة بأنصاره، إلا أن ذلك لم يمنعهم من تحويل الانتخابات المحلية إلى استفتاء فشل فيه أردوغان بنسبة كبيرة، وهي خسارة قد تجر وراءها خسارات أخرى.
وعكست الانتخابات مزاجا اجتماعيا وسياسيا مختلفا عن الانتخابات السابقة. على المستوى الاجتماعي، أظهر الناخب التركي ثقة أكبر هذه المرة لأحزاب المعارضة العلمانية الأتاتوركية، لاسيما داخل المدن الكبرى. وكشفت نسبة الإقبال على مستوى البلاد والتي قاربت الـ85 بالمئة توقا اجتماعيّا إلى التغيير في البلاد.
وعلى المستوى السياسي، لعبت الانتخابات المحلية دورا كبيرا في التهيئة لتوحيد في صفوف المعارضة. فنادرا ما تعمل أحزاب المعارضة التركية على تنسيق إستراتيجياتها.
لكن هذه المرة، اختارت ثاني أكبر مجموعة معارضة في البرلمان، حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يشدد على حقوق الأقليات، بالإضافة إلى دعم مرشحين من كتلة معارضة يقودها حزب الشعب الجمهوري، على الرغم من تناقض في الكتلتين، بما فيهما الكماليون الجدد والقوميون الأكراد واليساريون، وذلك للحد من قوة حزب العدالة والتنمية المهيمن على السياسة التركية منذ سنوات.
ورأت مراجع سياسية تركية أن التصويت لم يكن فقط عقابيا ضد أداء البلديات التي كان يهيمن عليها حزب العدالة، بل كان في مجمله سياسيا ضد خيارات أردوغان وتداعيات تلك الخيارات على النسيج الاجتماعي للأتراك، كما على بناهم الاقتصادية.
كانت كلمة السر في صعود حزب العدالة والتنمية هي التنمية وسياسة “تصفير المشاكل” في السياسة وفق مذهب رئيس الحكومة التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، وكانت كلمة السر في هزيمة أردوغان هي الأزمة الاقتصادية، حيث تضرب موجة انهيار كبيرة في أسواق الصرف. وبلغ معدل البطالة 13.5 بالمئة في نهاية سنة 2018، وهو أعلى مستوى سجل على مدى تسع سنوات. مع تسجيل نسبة تضخم عالية.
حزب العدالة والتنمية فقد الكثير من مصداقيته داخل المدن والقرى بسبب ممارسة المحسوبيات وانتشار ظواهر الفساد، ناهيك عن تأثر المدن والقرى التركية بالأزمة الاقتصادية
وعلى مستوى السياسة الخارجية، قلب أردوغان كل المعادلات التركية، وحول سياسة البلاد من صفر مشاكل إلى صانع للمشاكل مع الأوروبيين، وفي الشرق الأوسط وحتى مع الولايات المتحدة.
اعتمد أردوغان سياسات أثارت عداء محيط تركيا الإقليمي، كما علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، ناهيك عمّا سببته هذه السياسات من فتح تركيا أمام كافة أحزاب وتيارات الإسلام السياسي في العالم على نحو لم يعد مقبولا لدى المجتمع التركي، بما في ذلك الشرائح المتدينة.
وتقول تقارير إن ما امتلكه أردوغان وحزبه من معلومات داخلية كان ينذر بأن الاستحقاق الانتخابي سيكون قاسيا. وقد رفع أردوغان نفسه من شأن هذا الموعد الانتخابي المحلي وجعله وطنيا سياسيا، وتعامل معه بصفته استفتاء على شعبيته وشعبية حزبه.
وكان لافتا أن يشرف الرئيس التركي المفترض أن يكون رئيسا لكل الأتراك وحكما بينهم، لاسيما في موسم الانتخابات، شخصيا على حملات انتخابية دون كلل على مدى شهرين قبل تصويت الأحد، الذي وصفه بأنه “مسألة بقاء” بالنسبة إلى تركيا.
فقدَ حزب العدالة والتنمية الكثير من مصداقيته داخل المدن والقرى بسبب ممارسة المحسوبيات وانتشار ظواهر الفساد، ناهيك عن تأثر المدن والقرى التركية بالأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد والتي نقلت البلاد من حقبة الازدهار التي ظهرت في السنوات الأولى لحكم هذا الحزب، إلى مرحلة ركود.
واحتاج الحزب من أجل تجاوز محنته المتوقعة قبل موعد الانتخابات إلى تدخل أردوغان شخصيا للنهل مما يمتلكه من شعبية داخل الكتلة الناخبة التقليدية لـ”العدالة والتنمية”، في محاولة للتخفيف من نزيف الأصوات الذي رصدته مؤسسات استطلاع الرأي قبل أسابيع. غير أن اللقاءات الجماهيرية اليومية لأردوغان والتغطية الإعلامية الداعمة له في معظمها، عجزت عن أن تكسبه تأييد العاصمة أو تضمن له نتيجة حاسمة في إسطنبول.
أزمة في العدالة والتنمية

في وقت كان يجب على حزب العدالة والتنمية أن يؤسس حملته الانتخابية على تذكير بما حققه داخل البلديات التي كان يسيّرها، وأن يقدم برنامجا تنمويا، آثر أردوغان اللعب على الوتر الديني الذي لطالما استخدمه في انتخابات سابقة، معوّلا على الأمر للاستمرار بجذب الناخبين للتصويت لصالح حزبه.
غير أن الناخب التركي قال كلمته الأحد وأظهر وعيا جديدا مسددا ضربة للحزب الذي يمثّل الإسلام السياسي التركي لصالح العلمانية التركية. وذكرت وسائل إعلام تركية أن مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض منصور يافاش حقق فوزا واضحا في أنقرة. وفي إسطنبول تقدم حزب الشعب الجمهوري.
وقال زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو “صوّت الشعب لصالح الديمقراطية، لقد اختاروا الديمقراطية”. وأعلن أن حزب الشعب الجمهوري العلماني انتزع السيطرة على أنقرة وإسطنبول من حزب العدالة والتنمية، وفاز في مدينة إزمير المطلة على بحر إيجة.
ورغم أن هذه المدن كلها مهمة إلا أن إسطنبول تبقى الأهم بالنسبة إلى أردوغان، فهي عاصمة العثمانيين التاريخية، ومن بلديتها بدأ في التسعينات من القرن الماضي يصعد سلم السلطة إلى أن وصل إلى أعلى هرمه، يضاف إلى ذلك مشاريعه العملاقة فيها من الجسر الثالث على البوسفور، إلى جامع تشامليجا الكبير وقصره الرئاسي الفخم، ومطار اسطنبول الجديد.
وقال جان ماركو، بروفيسور العلوم السياسية في غرينوبل بفرنسا والباحث في المعهد الفرنسي لدراسات الأناضول، “منذ انتخابه لم يكفَّ أردوغان عن تركيز اهتمامه على إسطنبول”.
هذه التغييرات لا تنفصل عن سياسية أشمل طالت كل إرث مصطفى كمال أتاتورك الذي وجّه له أردوغان أقوى الضربات حين قرر هدم المركز الثقافي الذي يحمل اسمه، وتحويله إلى مركز إسلامي ومسجد على أنقاضه، على غرار ما فعل مع أغلب المنشآت التي تحمل اسم أتاتورك.
لكن، جاءت الانتخابات المحلية الأخيرة، والتي ولئن لن تمس كثيرا من سلطة أردوغان، إلا أنها تقلق راحته بإعادة إحياء شبح أتاتورك الذي كانت صورته دائما حاضر في تجمعات الأتراك ومظاهراتهم وانتخاباتهم.
والظاهر أن الرئيس التركي أقر بأن الأتراك يريدون نتائج اقتصادية، وأنهم لن يمنحوه ثقتهم بسبب خطابه السياسي الذي اعتمده في السنوات الأخيرة. والظاهر أيضا أن أول أعراض رد الفعل لدى أردوغان هو إعادة تصويب خطابه بعد أن جرت هذه الانتخابات باتجاه الاقتصاد. وتعهد أردوغان بأن تركز تركيا من الآن على الاقتصاد المتعثر قبل الانتخابات العامة التي ستجرى في عام 2023.
لكن نتائج الأحد أشارت إلى أن تركيا دخلت حقبة جديدة لإنهاء الهيمنة التي حظي حزب العدالة والتنمية بها داخل المؤسسات السياسية والدستورية والمحلية في تركيا، وبالتالي فإن الوضع لن يكون يسيرا بالنسبة إلى أردوغان الذي قد يتجه نحو المزيد من القمع وتكميم الأفواه بما قد يدخل البلاد في فوضى، يذهب الكاتب التركي جنكيز أكتار إلى حد تشبيهها بما يحدث في فنزويلا اليوم، بقوله “قد تخضع تركيا، مثل فنزويلا، لأزمة شرعية عميقة لكن مبشرة، وكل شيء سيتغير”.