الانتخابات العراقية: فساد يسبق المقاطعة

المشاركة الواسعة في الانتخابات من جميع المكونات قد تعيد إنتاج انقسام المكونات ولكنها، من جهة ثانية، تنتج رأسمال اجتماعيا مضادا للانقسام.
الاثنين 2018/04/16
الانتخابات أمل العراقيين

بغداد- يعدّ الفساد الانتخابي جزءا من المخاض السياسي في المجتمعات التي تعيش حالة انتقال ديمقراطي، لكن في حالة العراق  ليس متوقعا أن يؤثر كثيرا على نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ذلك أن احتدام الصراع السياسي والاجتماعي سيدفع بالناخب إلى التحرك نحو صناديق الاقتراع للتعبير عن ذاته المقهورة وتحقيق مشاركة سياسية تثبت وجوده الجهوي والإثني والمناطقي.

وبالنسبة للكتلة السنية فإن المشاركة الواسعة في الانتخابات تعد بمثابة مسألة وجودية، ذلك أن وزنها السياسي مرتبط بوزنها الانتخابي المتحقق عبر صناديق الاقتراع، فأهل السنة هم المكون الوحيد في البلاد غير المصنّف عدديا، ولم يستطع ممثلوه أن ينسجوا ويثبّتوا رؤية سياسية تستند إلى وزنه الاجتماعي والسياسي، في المقابل استطاعت الأحزاب الشيعية تكريس سردية “الأغلبية الشيعية” وفرضها بصيغة الأمر الواقع عبر الانتخابات ومن خلال هيمنة هذه الأحزاب على النظام السياسي والتحكّم في السلطة وثروات البلاد.

ويحافظ المكوّن الكردي في حضوره السياسي على الحس القومي الذي يضمن له وزنا انتخابيا ثابتا أو شبه ثابت في كل دورة برلمانية،  في حين تحافظ الأقليات الدينية والإثنية على حضورها من خلال نظام “الكوتا”، بينما بقي المكون السني وحده الذي يعتمد حضوره في العملية السياسية على نسبة مشاركته في الانتخابات.

وعليه فإن الموازنة العقلانية بين شبهات فساد الانتخابات والتخوف من مقاطعتها بالنسبة للسنة، ترجّح خيار المشاركة على نطاق واسع برغم احتمالات حدوث قدر من التزوير، وذلك كي تتمكن المدن المنكوبة والمحررة من داعش من إثبات وجودها على المستوى الوطني وتصعيد ممثلين فعليين لسكانها للبرلمان الجديد وإعادة دمج نفسها ضمن المجتمع العراقي والنظام السياسي.

وتتصل ضرورة المشاركة السنية القوية في الانتخابات بحقيقة أن وجود السنّة ودورهم في هذا البلد مرتبطان بقوة الدولة المركزية وديمقراطيتها وتعدديتها وعلمانيتها، فليس بمقدورهم الانفصال في إقليم مستقل مثل الأكراد، حاليا على الأقل، كما لا يستطيعون فرض الأمر الواقع واحتكار السلطة مثل الكتلة الشيعية، لكنهم يستطيعون التعبير عن أنفسهم عبر الدفاع عن الديمقراطية العراقية والمشاركة المكثفة في الانتخابات.

ويعاني المكون السني في العراق من حالة انكشاف سياسي واقتصادي واجتماعي وجغرافي، لذلك تمثل الانتخابات فرصة لاستعادة دوره وإعادة تأهيل نفسه داخليا والاندماج ضمن النظام والمجتمع الكبير، حيث أن مصلحة السنّة مرتبطة بالديمقراطية لا بالفيدرالية مثل الأكراد ولا بالحكم السلطوي الأحادي مثل الشيعة.

وليس الفساد الانتخابي هو الإشكالية الوحيدة التي تواجهها الديمقراطية المتعثرة في العراق، فهو ليس حالة شاذة أو طارئة في مواسم الانتخابات بل انعكاس للفساد البنيوي المتفشي بشكل واسع في الحياة السياسية والمؤسساتية في هذا البلد. وبفعل الفساد العميق والهيكلي صارت العملية الديمقراطية عبئا على المجتمع تستنزف موارده عبر إنفاقها خارج إطارالقانون وبالتحايل عليه، أو في إطار قوانين مفصلة لتسهيل الفساد، لتمويل هيمنة النخب السياسية والدينية المتنفذة والتي تتحكم في السلطة والثروة باسم تمثيل المكونات والحفاظ على “التوازن الطائفي”، فانحرفت الديمقراطية بذلك عن غاياتها الأصلية المرتبطة بالمشاركة السياسية والحرية نتيجة اغتيال مفهوم التداول السلمي على السلطة وتكريس احتكار الطبقة السياسية والحزبية المهيمنة والطبقات الطفيلية المتحالفة معها للموارد والفرص وتوظيف العمليات الانتخابية في إعادة إنتاج الأوضاع  القائمة وتدوير النخب المهيمنة.

ولكن على الرغم من كل هذه التشوهات في الواقع السياسي والسلوك الانتخابي، فإن المشاركة الانتخابية بحد ذاتها تبقى الخيار الأكثر حضورا وتأثيرا في المجتمعات التي تواجه تحديات وجودية مثل المجتمع العراقي.

ومن خلال المشاركة الواسعة، ومع توالي التجارب الانتخابية، يمكن توقّع ظهور “الكتلة التصويتية الحرجة” أي مجموعة الناخبين الأقل تأثرا بالخطاب الطائفي والفساد الانتخابي والأكثر قدرة على التحرر من ضغوطهما عند الإدلاء بأصواتهم.

ومع أن الفساد الانتخابي يضعف الثقة المجتمعية بالانتخابات فإن التجارب الدولية والمحلية تخبرنا بأن تأثيره سيبقى محدودا في نسب المشاركة؛ ذلك أن الفساد هو أحد أوجه الأزمة السياسية التي يكتوي بها الناخب، والصراع الانتخابي الذي يتم فيه توظيف التلاعب والتزوير هو امتداد للصراع السياسي الذي يأخذ طابعا طائفيا ومناطقيا؛ والمحصلة المتوقعة لهاتين الحقيقتين هي نسب مشاركة كبيرة من جميع المكونات بهدف إثبات الوجود وتأكيد الذات والهوية.

 وعلى الرغم مما يحيط بهذه الظاهرة من مخاوف واحتمالات تكريس الانقسام وإعادة إنتاج التخندقات وتصعيد قوى طائفية؛ فإن فيها محتوى تشاركيا إيجابيا مهما يتجلى في اشتراك المكونات جميعا في خلق الشرعية لمؤسسات الدولة والالتقاء تحت مظلتها، كما تسمح كثافة المشاركة العددية بظهور تلك الكتلة التصويتية النوعية التي يمكن أن تعكس خياراتها تحولا نوعيا في السلوك الانتخابي باتجاه القوى الإصلاحية والتنويرية.

وقد تعيد المشاركة الواسعة في الانتخابات من جميع المكونات إنتاج انقسام المكونات ولكنها، من جهة ثانية، تنتج رأسمال اجتماعيا مضادا للانقسام، قوامه الشراكة بين المكونات المجتمعية في الاحتكام لصندوق الاقتراع والالتفاف حول فكرة الدولة وحماية مؤسساتها الهشة من الانهيار.

بمعنى أن الصراع الطائفي الذي يحاول تجديد نفسه من خلال الانتخابات قد ينجح في ذلك جزئيا ولكنه في الوقت نفسه، ومن دون أن يضع مؤججوه ذلك في حساباتهم، سينتج حالة نفسية وسياسية معاكسة للطائفية وفق مقولة إن “الديمقراطية تصلح نفسها بنفسها”.

6