الاقتصاد التونسي في حقل ألغام تركية
كانت يافطة "استهلك تونسي" التي تبنتها المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك لسنوات قبل الثورة تدفع المواطنين للإقبال على شراء السلع المحلية باعتبارها الضامن الأكبر وربما الوحيد لاستدامة الأنشطة الصناعية وتحريك عجلة النمو.
لكن هذا الأسلوب فقد تأثيره بشكل كبير خاصة في ظل فيضان السلع التركية الرخيصة التي اجتاحت السوق التونسية منذ عام 2011 بشكل لافت، ما تسبب في شلل المصانع المحلية بشكل شبه كلي.
اليوم، تتزايد التحذيرات من تفاقم مشكلة غزو السلع التركية التي أثرت كثيرا على معظم القطاعات وبات المنتجون المحليون مهددين بتوقف أنشطتهم لتقلص الطلب على سلعهم.
هناك مؤشرات كثيرة تؤكد أن الاقتصاد التونسي أصبح مهددا أكثر من أي وقت مضى من “الألغام” التركية. ولعل اختلال الميزان التجاري يفضح التغول الاقتصادي التركي في تونس إذ تميل الكفة لصالح الأتراك. ويكشف النظرة الضيقة للحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
التبادل التجاري التونسي المختل مع تركيا يعكس وضعية غير متكافئة تدعو إلى الحيرة. فرغم أن العلاقة التجارية تمتد لأكثر من عقد من الزمن، لكنها بدأت تطرح خلال الأعوام الستة الأخيرة حزمة من المشكلات تتطلب حلا سريعا لوقف النفوذ الاقتصادي التركي.
اختلال الميزان التجاري يفضح التغول الاقتصادي التركي في تونس ويكشف النظرة الضيقة للحكومات المتعاقبة بعد الثورة
المشكلة الأولى تتمثل في عدم المساواة أو التكافؤ، أي أن التبادل التجاري يتم في اتجاه واحد ولصالح طرف واحد هو الطرف التركي، لدرجة أن الضرر طال قطاعات تونسية كانت إلى وقت قريب من القطاعات المهمة لخزينة الدولة وفي مقدمتها قطاع النسيج.
الأرقام تثبت أن هناك سوء إدارة من المسؤولين التونسيين وخاصة أثناء تولي حكومة الترويكا السلطة بقيادة حركة النهضة، التي فتحت الباب على مصراعيه أمام الواردات التركية دون رقابة حتى بلغ العجز التجاري في العام الماضي نحو 640 مليون دولار. وربما يتفاقم العجز أكثر في 2017 إن لـم تتـدارك الحكـومة الوضع سريعا.
لا شك أن الشراكات الاقتصادية بين الدول هي إحدى ركائز العلاقات الدولية في ظل عولمة الاقتصاد، لكن جنوح الدول إلى سياسة الإغراق الاقتصادي تضر بمصالح الشركاء، وهذا ما تفعله تركيا مع تونس حاليا وهي استراتيجية تخالف قواعد منظمة التجارة العالمية.
يقدر اقتصاديون خسائر مختلف القطاعات التونسية بسبب إغراق السوق بالتوريد العشوائي للبضائع التركية المعفاة من الرسوم الجمركية بنحو مليار دولار، وهي مرشحة للارتفاع إن لم تضع الحكومة حدا لهذا التسيب.
وقد دفعت تلك الخسائر الكبيرة وزير الوظيفة العمومية عبيد البريكي قبل أيام من استقالته إلى انتقاد صمت الحكومة بشأن إغراق السوق التونسية بالسلع التركية دون إبرام صفقات تصدير سلع تونسية إلى السوق التركية. ويبدو أنه وضع أصبعه على الداء.
المشكلة الأخطر في هذه المبادلات تأتي من دخول سلع إلى تونس قادمة عبر تركيا من منشأ غير تركي، أي أن الأتراك يمارسون الغش عبر التصدير غير المباشر، ما يجعل من الصعـب تحديد الأرقـام بدقـة لأن التقييم غير ممكن في ظل مثل هذه المعطيات المبهمة.
ولا تقف الأزمة عند الخسائر المادية، بل إن ممارسات تركيا تمس بطريقة غير مباشرة الوظائف التونسية كذلك، إذ تشير بيانات إحصائية رسمية إلى أن أكثر من 160 ألف عامل مهددون بترك وظائفهم في قطاعي الزراعة والنسيج فقط.
ويرى خبراء الاقتصاد أن ارتفاع الاستيراد من تركيا مقابل عدم تصدير أي سلع إليها يعد شكلا من أشكال الفساد الذي تتغاضى الحكومة عن التصدي له وستكون مجبرة عاجلا أم آجلا على مراجعة حساباتها للحد من التمدد الاقتصادي التركي لإنعاش الصناعات التونسية وبالتالي إنعاش الصادرات.
وما يزيد من صعـوبة الوضع أن الحكومة تقوم بالاقتراض لتمويل واردات السلـع وليـس لضخ الأمـوال في التنميـة كمـا تدعي. ومن الضروري ألا يتواصل الوضع لأن موازين القوة التي يتم على أساسها التبادل التجاري الحالي مختلة وتزيد من العجـز ومن نـزيف العملة الصعبة.
ورغم انتقاد البعض للعلاقة مع الاتحاد الأوروبي الشريك التقليدي لتونس، فإن المؤشرات تؤكد تحقيق تونس فائضا تجاريا بحوالي 125 مليون دولار في العام الماضي، أي أن تونس رابحة من هذه العلاقة على عكس ما يحصل مع تركيا.
وتعود أسباب غزو السلع التركية لتونس إلى عام 2004 حينما أبرمت الدولة آنذاك اتفاقية الشراكة والتبادل الحر مع أنقرة. وكانت الحكومة حينها تنظر إلى تركيا كشريك مهم في ظل صعودها الاقتصادي الصاروخي، لتعزيز صادراتها والتعريف بسلعها، لكن الأمر دخل في منعطف خطيـر بعد ذلك.
العجز التجـاري الكبير مع تركيا ناتج، وباعتراف وزير التجارة والصناعة زياد العـذاري، عن قلـة جهـود تونـس لتـأهيل سلعهـا لاقتحام السـوق التـركية منـذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في عام 2005.
ومع اشتداد الأزمة والدعوة إلى مراجعة هذه الاتفاقية، ستكون تونس أمام خيار فك الارتباط ولو جزئيا مع الأتراك خلال مشاركتها في اجتماعات الدورة الثانية للمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي التونسي التركي الذي سينعقد في أنقرة بعد أسابيع من الآن.
كاتب وصحافي تونسي