الاقتصاد التونسي المأزوم لا يحتمل تأجيل تشكيل الحكومة

تحيي تونس، الثلاثاء، الذكرى التاسعة لاندلاع شرارة ثورة 17 ديسمبر- 14 يناير التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي عام 2011، وسط أجواء سياسية مشحونة بسبب فشل رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي في تشكيل الحكومة الجديدة بعدما طلب مهلة إضافية بشهر لتقريب وجهات النظر بين الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية في الوقت الذي تشهد فيه البلاد أزمات اقتصادية واجتماعية حادة لا تحتمل المزيد من التجاذبات السياسية.
تونس – دفعت التجاذبات السياسية والشروط التي طرحتها الأحزاب التونسية المعنية بالمشاركة في الحكومة الجديدة على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي إلى طلب مهلة إضافية بشهر قصد المزيد من التفاوض مع الأحزاب على برنامج حكومته وحول مكوناتها والأسماء المقترحة لنيل حقائب وزارية.
وتتزامن بداية المهلة الدستورية الثانية للجملي مع إحياء تونس للذكرى التاسعة لثورة 2011 مع مطبات اقتصادية واجتماعية بالجملة خصوصا أن جل خبراء الاقتصاد يؤكدون أن عام 2020 سيكون الأصعب على البلاد.
ويرى المتابعون أن الوضع الاقتصادي المأزوم وتزايد الضغوط مع اقتراب مواعيد تسديد الديون الخارجية لا يحتمل المزيد من تأجيل الإعلان عن تركيبة الحكومة الجديدة كي تباشر أعمالها لفض الكثير من المشكلات العالقة.
وظهرت في الشارع التونسي بوادر احتقان من الأحزاب التي فازت بمقاعد برلمانية في الانتخابات التشريعية ومن الرئيس قيس سعيد الذي يجد نفسه بدوره يبدأ عهدته بأزمة سياسية حادة بسبب تعثر مسار تشكيل الحكومة وكذلك الانقسامات الحادة داخل البرلمان.
منذ تكليفه رسميا منتصف أكتوبر الماضي، بدأ الحبيب الجملي الذي يؤكد أنه مستقل عن الأحزاب، مشاورات سياسية بحثا عن توافقات لحكومته المرتقبة مع غالبية الأحزاب الممثلة في البرلمان والمنظمات الوطنية والشخصيات النقابية والكفاءات.
وتشكك الكثير من الدوائر السياسية في استقلالية الجملي الذي كلفته حركة النهضة الإسلامية بتشكيل الحكومة، حيث تشير العديد من التسريبات إلى أن رئيس الحكومة المكلف بقي طيلة شهر من المفاوضات رهين خيارات زعيم الحركة راشد الغنوشي في ما يتعلق بشكل التحالفات السياسية والأحزاب التي ستكون شريكة في الحكم.
ويقر الملاحظون بأن الجملي لم يستطع حسم مسألة تركيبة حكومته بسبب تحويل النهضة لأزمتها الداخلية إلى أجهزة الحكم، ففيما يحاول الشق المحسوب على الغنوشي التأقلم مع نتائج الانتخابات بإمكانية التحالف مع حزب قلب تونس الذي يتزعمه نبيل القروي، يدفع الرافضون لخطه السياسي ذلك متمسكين بوجوب التحالف مع حزبي حركة الشعب والتيار الديمقراطي تحت شعار توافق “الأحزاب الثورية”.
ولم تسعف المهلة الدستورية الأولى التي يمنحها الدستور للجملي لإتمام مهمته التي تم تمديدها شهرا إضافيا ما ينذر بمهمة صعبة وسط دعوات بالتسريع لأنه إذا فشل في مهامه فسيكلف الرئيس شخصية أخرى مستقلة بالمهمة.
وتأتي هذه الأزمة بعدما أعلن حزب التيار الديمقراطي (22 نائبا) وحركة الشعب (15 نائبا)، ثاني أكبر الكتل في البرلمان انسحابهما من المشاورات معلّلين ذلك بعدم الحصول على حقائب وزارية أو غياب الجدية.
ومن شأن تعثر مسار تشكيل حكومة الجملي أن يضعف حظوظها في نيل ثقة البرلمان حيث يجب أن تحصل على 109 أصوات (من مجموع 217).
وتزامنت هذه الأزمة السياسية أيضا مع انطلاق أولى جلسات البرلمان الجديد بمشادات وتجاذبات بلغت حد تعطيل العمل بسبب تبادل الشتائم بين نواب بخلفيات سياسية متضادة.
وأفرزت الانتخابات النيابية منتصف أكتوبر الماضي فسيفساء من الأحزاب تتقدمها حركة النهضة الإسلامية (52 نائبا) ويليها حزب قلب تونس الليبرالي (38 نائبا).
وتتمحور الخلافات في البرلمان بين الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وفي مقدمتها النهضة التي كثيرا ما تواجه انتقادات لنتائج فترة حكمها منذ 2011. وفي المقابل تهاجم الأحزاب العلمانية الإسلاميين وتتهمهم بالمسؤولية عن تردي الوضع في البلاد.
ووصل الأمر إلى اعتصامات من قبل نواب داخل البرلمان مع انطلاق مناقشة قانون الموازنة 2020 الأسبوع الماضي.
إلى ذلك، يزداد الاحتقان الاجتماعي في البلاد خصوصا مع ارتفاع سقف المطالب الاجتماعية بسبب تضخم الأسعار رغم استقرار بعض المؤشرات الاقتصادية دون خروجها من منطقة الخطر.
ولا تزال نسبة البطالة في مستوى 15.1 في المئة والتضخم 6.3 في المئة ونسبة النمو بحدود 1.4 في المئة بينما يبلغ العجز في الموازنة 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وغالبا ما ارتبط شهر يناير في تونس بتزايد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية مع اقتراب ذكرى وفاة محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه في مدينة سيدي بوزيد احتجاجا على وضعه في 17 ديسمبر 2010.
ومطلع ديسمبر الحالي اندلعت احتجاجات في مدينة جلمة وسط البلاد أفضت إلى مواجهات بين سكان المنطقة وقوات الأمن بعد أن انتحر الشاب عبدالوهاب الحبلاني (25 عاما) حرقا احتجاجا على وضعه الاجتماعي في هذه المدينة المهمشة.
ويقول المحلل المالي والاقتصادي عزالدين سعيدان “إذا تأخرنا بهذا الشكل في تشكيل الحكومة في حين يشهد مجلس النواب أجواء مشحونة مع غياب التوافق، فإن هذا سيترك تأثيره حتما لأنه لن يترك المجال أمام البلاد للدخول في إصلاحات الإنقاذ”. كما يصف الوضع الاقتصادي بأنه في حالة نزيف، لأن كل المؤشرات دون استثناء تتدهور.
ولم تستطع البلاد منذ ثورة 2011 تجاوز الضغوط الاقتصادية وركزت الطبقة السياسية اهتماماتها أكثر على تأمين الانتقال الديمقراطي السياسي بينما تأجلت الإصلاحات الاجتماعية مع تفاقم المطالب المعيشية بالإضافة إلى توجيه القروض الخارجية إلى الاستهلاك وسداد رواتب القطاع الحكومي بدلا من تخصيصها للاستثمار.
ويرى سعيدان أن الحكومة مطالبة بالشروع مباشرة في إصلاحات ويجب أن تكون هناك حكومة قوية ومدعومة من البرلمان للقيام بإصلاحات هيكلية موجعة لوقف النزيف وهذا ضروري ومطلوب في أقرب وقت ممكن، خصوصا في ما يتعلق بالتحكم في نفقات الدولة والتقليص من الاستيراد.
ويشكل الدين الخارجي أهم الملفات التي شغلت الحكومات السابقة وبينها حكومة يوسف الشاهد التي استمرت أطول فترة مقارنة بسابقاتها ولم تستطع تحقيق الانتقال الاقتصادي الضروري في البلاد.
وتستقر نسبة الديون عند مستوى 74 في المئة وبلغت 7 في المئة في العام 2018 من حجم الناتج الإجمالي وفقا لصندوق النقد الدولي الذي منح العام 2016 قرضا لتونس صرف منه 1.6 مليار دولار على أربع سنوات مقابل القيام بإصلاحات اقتصادية واسعة على أن يتم سداده اعتبارا من 2020.
وتتوجه تونس مجددا إلى السوق الخارجية العام القادم للحصول على قروض جديدة بحسب مشروع الموازنة، لكن المهمة لن تكون سهلة في نظر سعيدان الذي يتساءل “كيف ستتمكن من الحصول على هذه القروض؟”، عازيا السبب إلى “المناخ السياسي الذي لا يخدم صورة البلاد في الخارج”.
وتواجه سياسة الدولة من حيث الاستدانة من الخارج انتقادا ورفضا شديدين من بعض المنظمات وخصوصا النقابة العمالية المركزية التي تدعو الحكومة إلى عدم الانسياق لإملاءات صندوق النقد الدولي.
وخلص سعيدان إلى التحذير من الوصول إلى مرحلة عجز الدولة عن سداد مستحقاتها “لأنه إذا لم نستطع تسديد ديوننا فسندخل في دوّامة جدولة الديون وعندها سيكون الوضع أخطر بكثير”.