الاستقلال الإستراتيجي يأخذ توقعات تركيا إلى أوهام بعيدة

بينما يرى مراقبون أن أحلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إحياء إمبراطوريته على أنقاض الدولة العثمانية وراء استعراض عضلات بلاده عسكريا في البحر المتوسط، فإن الأمر يتجاوز تلك النظرة السطحية، حيث أن المسألة تتعلق بما إذا كان بإمكانه الاستغناء عن أوروبا والولايات المتحدة خاصة في مسألة التسليح والتكنولوجيا العسكرية بعد اكتشاف الغاز في المتوسط والبحر الأسود؟ وهل فعلا ستتمكن أنقرة من تحقيق الاستقلال الإستراتيجي في ظل الأزمة الاقتصادية؟
أنقرة – تمنح حالة الاستعراض العسكري التركي في مياه البحر المتوسط والذي ظهر خلال إحياء أسطول بحري لتقليد يعود إلى القرن السادس عشر خلال حكم الدولة العثمانية، عند مروره بمضيق البوسفور، ذريعة نموذجية للرئيس رجب طيب أردوغان من أجل استكمال طموحاته لتحقيق ما يسمى بـ”الاستقلال الإستراتيجي”.
ولم يتوقف الكثير من المراقبين للشأن التركي عند هذه الواقعة، التي حيا فيها البحارة الأتراك العائدون من أكبر تدريب للقوات البحرية، ولكنها تحمل الكثير من الرمزية، التي تتعارض مع طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان الهادفة إلى بناء دولة لا تعتمد على أيا كان في المستقبل.
ويقول محللون إنه في حين تعيد تركيا بناء قدراتها العسكرية البحرية والتنافس على المناطق البحرية المتنازع عليها في البحر المتوسط فإنها تخوض صراعا مع خصومها التاريخيين في الغرب خاصة في ما يتعلق بقدرات التسليح والتكنولوجيا العسكرية.
ويتركز الاهتمام الدولي على السباق من أجل السيطرة على احتياطات الغاز الضخمة تحت مياه شرق المتوسط، والذي دفع ليس فقط تركيا، وإنما أيضا قبرص ومصر واليونان وإسرائيل إلى إعلان حقوقها في أكثر بحور العالم ازدحاما، ومع ذلك فإن جذور الصراع والتوتر أكثر عمقا من ذلك.
ويعكس نمو القوة البحرية التركية التي ترفضها الدول الأخرى المجاورة، مدى طموح أردوغان في تأكيد مصالح بلاده، وبخاصة الظهور كقوة إقليمية مسلمة تقف على قدم المساواة مع أوروبا وروسيا والولايات المتحدة.
واستطاع أردوغان نشر قواته خارج بلاده بنجاح مدعوما بالسفن والغواصات الحربية محلية الصنع، وهو ما أثار قلق الدول الساحلية الأخرى، بحسب وكالة بلومبرغ، التي أشارت إلى استعداد الصناعات العسكرية التركية لتدشين فرقاطات أكبر حجما وحاملة طائرات تزن 27 ألف طن خلال العام المقبل.
ويقول ريان غينغراس الأستاذ في قسم شؤون الأمن القومي في مدرسة البحرية للدراسات العليا في كاليفورنيا “ليس بعيدا جدا عن السطح، توجد مجموعة من الدوافع وراء هذه التحركات وأبرزها فكرة أن تركيا هي أكبر قوة في شرق البحر المتوسط، ويجب معاملتها على هذا الأساس”.
وأوضح غينغراس المتخصص في الشأن التركي أن أنقرة ترى نفسها اليوم محاطة بالخصوم والأعداء وأنها ستستخدم القوة لتأكيد وجودها لأنها قادرة على ذلك.
ويمثل ازدهار صناعة السفن الحربية جزءا من توسع أكبر لصناعة السلاح التركية التي تشمل المروحيات الهجومية والطائرات المسيرة العسكرية بهدف تحقيق الاستقلال الإستراتيجي عن الدول الغربية الموردة للسلاح.
وباتت تركيا تنظر إلى تلك الدول باعتبارها معادية أكثر من كونها دولة شريكة لها. وقد حدد أردوغان عام 2023، الذي يوافق ذكرى مرور مئة عام على قيام الجمهورية التركية، كتاريخ لتحقيق الاستقلال الكامل في مجال السلاح وهو ما يبدو أمرا بعيدا عن الواقع.
ومما يعزز الشكوك في إمكانية تحقيق هذا الهدف، وفق المحللين الإستراتيجيين، هو تعثر الاقتصاد التركي البالغ حجمه 750 مليار دولار، خاصة إثر تصاعد التوتر مع الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الرئيسي لأنقرة، والذي يهدد بمعاقبتها بسبب أنشطتها في المنطقة.
وحتى يحقق أردوغان أحلامه تقوم السفن التركية، بشكل منتظم، بعمليات المسح الزلزالي للبحث عن الغاز في المياه الخاضعة لسيادة اليونان وقبرص. وفي الشهر الماضي حدث احتكاك بين سفينتين حربيتين يونانية وتركية ليصل التوتر بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى أعلى مستوياته منذ 1996 بسبب النزاع بين الجانبين على سيادة جزر غير مأهولة في بحر إيجة.
وربما يكون اكتشاف الغاز في البحر الأسود دافعا إضافيا لتركيا، ففي حال كانت الاحتياطات قابلة للاستخراج من الناحية التجارية، فإن الكشف قد يساعد أنقرة على الحد من اعتمادها الحالي على الواردات من دول مثل روسيا وإيران وأذربيجان، لتلبية كمية كبيرة من احتياجاتها من الطاقة.
وقال أردوغان في خطاب له يوم 26 أغسطس الماضي بمناسبة ذكرى أول انتصار للأسطول السلجوقي التركي على الإمبراطورية البيزنطية في معركة مانزكريت عام 1071، إن “تركيا ستحصل على نصيبها العادل من البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود… وإذا قلنا إننا سنفعل شيئا فإننا سنفعله وسندفع الثمن”.

ولكن إلى غاية الآن لم يتضح إلى أي مدى يمكن التعامل مع عدوانية أردوغان بجدية؛ ففي مقابلة مع وكالة بلومبرغ قال إبراهيم قالن المتحدث باسم أردوغان ومستشاره إن “تركيا تستهدف الضغط على شركائها في البحر المتوسط لكي يضعوا المصالح التركية في حسابهم، ويتفاوضوا مع تركيا بعد سنوات طويلة من تجاهلها”.
في المقابل، تؤكد اليونان أنه يجب وضع الجزر في الاعتبار عند حساب الجرف القاري للدولة صاحبة الجزيرة في شرق المتوسط، وفقا لمعاهدة الأمم المتحدة للبحار، والتي لم توقع عليها تركيا. وترى أثينا أن حساب الجرف القاري يجب أن يبدأ من البر الرئيسي للدولة. ورغم عرض كل دولة منهما إجراء محادثات بينهما، فمن غير المتوقع حدوث ذلك قريبا.
ورغم أن استعراض تركيا لقوتها في المنطقة جذب إليها الاهتمام الدولي، فإن شعبها البالغ تعداده 83 مليون نسمة في شبه عزلة دولية. ففي الأسبوع الماضي أعربت البحرية التركية عن قلقها من اعتزام روسيا إجراء مناورة بحرية بالذخيرة الحية في البحر المتوسط في وقت لاحق من الشهر الحالي.
كما قررت الولايات المتحدة رفع الحظر المفروض منذ عقود على تصدير السلاح إلى قبرص. وفي خطوة تستهدف استعراض القوة التركية نشرت فرنسا مقاتلاتها الحديثة، من طراز رافال، في إحدى القواعد الجوية بقبرص.
ويرى هوجو ديسيس، الباحث المتخصص في الشؤون البحرية في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن، أن أي تطور من هذه التطورات لن يجعل الحرب بين أنقرة وأثينا حتمية ولا حتى محتملة لكن المخاطر المتصاعدة تتزايد.
وقال “ما يجب أن يثير قلقنا حقا هو قيام تركيا بتطوير آلية الأمر الواقع على غرار ما تفعله الصين”، في إشارة إلى قيام الصين بمحاولة فرض سيادتها بحكم الأمر الواقع في بحر الصين الجنوبي.