الاتفاق النووي مع إيران مات

تعني سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس النواب الأميركي أن السياسات الخارجية للرئيس جو بايدن ستتعرض لسيل من الانتقادات العنيفة، وأن الاتفاق النووي مع إيران سيكون أول ضحية، وأن الجمهوريين سيجعلون الإطاحة بهذا الاتفاق أحد أبرز انتصاراتهم خلال السنتين المقبلتين، ليكون ذلك مقدمة لعودتهم إلى البيت الأبيض.
واشنطن - ليس الموقف الجمهوري من الاتفاق النووي موضوعا للانقسامات داخل الحزب؛ حيث ينظر الجمهوريون إلى العامين اللذين أمضاهما جو بايدن في التفاوض مع إيران، من أجل العودة إلى الاتفاق، على أنهما مضيعة للوقت. ولكن الأهم من ذلك هو أنهم يجدون في الإطاحة بالاتفاق سبيلا للإطاحة ببايدن نفسه وبأهم قضية في سياسته الخارجية.
هذا الأمر يشكل ثأرا سياسيا كبيرا أيضا من لعبة خروجٍ ثم مفاوضات عودة، ثم خروج من جديد.
وكان الرئيس السابق دونالد ترامب قد أعلن خروج الولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018، لأنه رأى أن إيران تنتهك الاتفاق وتواصل سياسة تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
وليس للاعتقاد الذي قال إن ترامب كان يريد، بالخروج من الاتفاق، أن يترك لسلفه إرثا عصيّا ما يبرره على أرض الواقع؛ لأن ترامب كان يتوقع بقاءه في الرئاسة للسنتين الباقيتين من عهده، وأربع سنوات أخرى بعدهما. أي أنه كان يخطط لخوض المزيد من المواجهات مع إيران، أو على الأقل تشديد العقوبات ضدها.
الاتفاق لم يعد هدفا
في الأيام الأولى التي تلت فوز بايدن بالرئاسة في عام 2020 أعلن أن العودة الى الاتفاق النووي ستكون أحد أهدافه الرئيسية. وبالفعل عادت المفاوضات لكي تستأنف في جنيف بعد بضعة أشهر من تولي بايدن منصبه، وتحديدا بعد تولي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي منصبه في أغسطس عام 2021.
وأصبح لمماطلة البدايات أثر على النهايات دون أن يدرك الطرفان ذلك. الإيرانيون، في عهد رئيسهم السابق حسن روحاني، كانوا يريدون العودة إلى الاتفاق قبل أن يحل موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وروحاني نفسه كان يريد أن يخرج من الرئاسة بإنجاز يُورّثه لخليفة إصلاحي من أنصاره. إلا أن تباطؤ الرئيس بايدن دفع المسؤولين الإيرانيين إلى ممارسة تباطؤهم الخاص، لسبيين اثنين على الأقل: الأول هو مواصلة عمليات التخصيب كي تشكل عامل ضغط إضافيا للحصول على المزيد من التنازلات. والثاني هو عدم ظهورهم في موضع الضعيف، وهي تهمة ظلت تلاحق فريق التفاوض في عهد روحاني.
وقد قال روحاني في 5 سبتمبر الماضي إن العودة إلى الاتفاق النووي كانت “ممكنة” منذ أكثر من عام، عندما كانت حكومته لا تزال في السلطة. وكان المفاوضون الإيرانيون في حكومته قد توصلوا بالفعل إلى اتفاقات بشأن كيفية رفع العقوبات عن إيران، وكذلك كان التنفيذ الكامل للاتفاق النووي ممكنا من جانب طهران، بعد 6 جولات من المحادثات بمشاركة أميركية غير مباشرة في فيينا، حتّی أنه تم الانتهاء من “حوالي 70 إلى 80 في المئة” من مسودة الاتفاق.
الإفراج عن الأموال الإيرانية المحتجزة في الخارج، والتي تقدر بنحو 120 مليار دولار، أصبح مستحيلا
وفي إشارة إلى هذا الواقع قال روحاني في 23 يونيو من العام الماضي “إذا أرادوا (الأميركيون)، فيمكننا إنهاء العقوبات اليوم وليس غدا، اليوم 23 يونيو يمكننا إنهاء العقوبات. نمنح الدكتور (عباس) عراقجي (كبير المفاوضين الإيرانيين) الصلاحية الآن للذهاب إلى فيينا كي يضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق في غضون أيام قليلة، وسيتم رفع العقوبات”.
ولكن الرئيس بايدن فوّت الفرصة على نفسه، قبل أن يُفوّتها الإيرانيون فيما بعد على أنفسهم أيضا.
واستغرق الأمر نحو عام ونصف العام من المفاوضات حول ما إذا كان يمكن الحصول على ضمانات تقضي بعدم خروج الولايات المتحدة من الاتفاق من جديد، وحول ما إذا كان يتوجب رفع العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني، ورفعه من قائمة المنظمات الإرهابية، ومن ثم تغيير تصنيف الشركات التابعة له.
وحتى الثاني من سبتمبر الماضي كان تبادل الملاحظات حول المقترحات التي قدمها الوسيط الأوروبي جوزيب بوريل قد انتهى إلى نوع من التوافق على السطر الأخير. وهو وقت ظل المسؤولون الإيرانيون يعتقدون أنه يمضي في صالحهم، ولكن العكس هو ما حصل.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيراني، ناصر كنعاني، في بيان ضمن موقع الوزارة على الإنترنت في ذلك اليوم، إن رد إيران يتخذ “مقاربة بناءة تهدف إلى إنهاء المفاوضات”.
ولكن الوقت كان قد فات بعد أن دخلت الولايات المتحدة في أجواء الاستعداد للانتخابات النصفية. ووجد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس مخرجا في ذلك اليوم نفسه بالقول “نحن ندرس الرد الإيراني وسنرد عليه من خلال الاتحاد الأوروبي، لكنه للأسف ليس بنّاء”.
الرئيس السابق دونالد ترامب كان قد أعلن خروج الولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018، لأنه رأى أن إيران تنتهك الاتفاق وتواصل سياسة تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة
وكانت مسودة النص النهائي التي قدمها الاتحاد الأوروبي جاهزة منذ أبريل، وقدمت إيران ردها عليها في الخامس عشر من الشهر ذاته، بينما قدمت الولايات المتحدة مقترحاتها الخاصة بالرد الإيراني في الرابع والعشرين من أبريل.
وكلما تعمدت إدارة الرئيس بايدن التأخير خشية الانتقادات التي تنتظر الاتفاق، فضلا عن محاولاتها لتخفيف معارضة حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم للاتفاق برمته، بحثت إيران عن ذرائع لتأخير مضاد؛ تارة بطلب الحصول على “ضمانات أقوى”، وتارة أخرى بطلب الحصول على “إشارات إلى حسن النيات”، وهو ما كان يعني الإفراج عن بعض الأموال الإيرانية المحتجزة.
وتجدد التعثر عندما أكدت إدارة بايدن أنها لا تستطيع تقديم ضمانات قوية تتجاوز فترة ولايته “لأن خطة العمل الشاملة المشتركة ليست معاهدة ملزمة قانوناً وإنما هي تفاهم سياسي”.
الآن، أصبح كل هذا السجال في خبر كان. ليس لأن الرئيس بايدن لن يعود قادرا على أن يقدم أي ضمانات إضافية، بل لأن الإفراج عن الأموال الإيرانية المحتجزة في الخارج، والتي تقدر بنحو 120 مليار دولار، أصبح مستحيلا. كما أن التسوية الملتوية التي اقترحها بوريل للخروج من عقدة تصنيف الحرس الثوري الإيراني لن تعود مقبولة أيضا.
وقد أصبح دور إيران في الحرب ضد أوكرانيا عاملا إضافيا يمنع تقديم مكافأة بهذا الحجم إلى إيران.
المتاجرة بإثارة الخوف
حاول الرئيس بايدن المتاجرة بإثارة الخوف من مشروع إيران النووي، قائلا إنه لن يسمح بامتلاك إيران أسلحة نووية. وذلك على الرغم من أنه كان يعرف أن إنتاج أسلحة نووية ليس وشيكا، وأن تلك الأسلحة لن تفيد إيران بمقدار ما تفيدها الأموال. كما أن اتفاقا لم يلحظ النشاطات الإرهابية التي ترعاها المنظمات التابعة لإيرانية في المنطقة، ولا التهديدات التي يتعرض لها الوجود الأميركي نفسه، كان مما لا يمكن ابتلاعه بسهولة حتى بالنسبة إلى إدارته. وها هو الاتفاق الآن، بأي صيغة من صيغه النهائية، قد أصبح من المستحيل أن يبتلعه الكونغرس.
لقد أضاع الطرفان فرصة لن تعوّض. وما وقع من تطورات داخل إيران نفسها جعل المستحيل أكثر استحالة.
السؤال الذي يشغل المراقبين هو: ماذا بعد؟
إيران لن تتخلى عن برنامجها النووي، كما لن تتخلى عن دعم ميليشياتها في المنطقة، حتى وهي تواجه أوضاعا داخلية تهدد استقرار النظام.
وفي المقابل لا تمتلك الولايات المتحدة إستراتيجية أخرى تجاه إيران. لقد كان التفاوض هو إستراتيجيتها الوحيدة. وكان قوْل “إن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة” مجرد كلام للتسويق الإعلامي، لأن تراجع الدعم العسكري الأميركي لدول الخليج كان مؤشرا على عدم وجود خيارات بديلة أو “خطة ب”. كما أن الطاولة الأخرى نفسها غير موجودة أصلا.
عامان إضافيان من الفوضى هما ما ينتظر المنطقة حتى يعود الجمهوريون إلى السلطة في الولايات المتحدة. في تلك اللحظة سوف تكون هناك طاولة، وتوجد فوقها خيارات.
