الاتحاد الأفريقي الأقدر على إنجاح مسار الوساطة في ليبيا

تعثر آليات الأمم المتحدة يكبّل أدوار القوى الدولية الكبرى.
السبت 2025/05/31
الحسابات وتضارب المصالح يثبتان الوضع الراهن

في ظل تصاعد العنف في ليبيا وتعثر الوساطات الدولية التقليدية، يعود الاتحاد الأفريقي إلى الواجهة كخيار واقعي لقيادة مسار تهدئة جديد. فمع تراجع دور الأمم المتحدة وتعمق الانقسامات الإقليمية، تبرز حاجة ملحة إلى وسيط محايد يمتلك شرعية إقليمية وقدرة على المناورة السياسية.

طرابلس - في خضم أسابيع مضطربة هزّت أركان الاستقرار الهش في ليبيا، عاد سؤال الوساطة الدولية إلى الواجهة، ليس كخيار سياسي فحسب، بل كضرورة للنجاة من انزلاق أوسع يهدد ما تبقى من توازن هش في البلاد.

وبينما تتعثر الآليات التقليدية بقيادة الأمم المتحدة وتتعمق الانقسامات الجيوسياسية التي تُكبّل أدوار القوى الكبرى، يبرز الاتحاد الأفريقي كلاعب قد يمتلك القدرة والإجماع الإقليمي على دفع مسار جديد نحو التهدئة وإعادة إطلاق العملية السياسية في بلد أنهكته الصراعات المتداخلة.

وشكّل اغتيال عبدالغني الككلي، أحد أبرز قادة الفصائل المسلحة في طرابلس، في 12 مايو لحظة فارقة فجّرت تصعيدا حضريا واسع النطاق، لم يكشف فقط هشاشة الترتيبات الأمنية، بل أظهر مدى تغلغل التشظي في عمق المنظومة الليبية، من المؤسسات المكررة التي تجاوزت ولاياتها، إلى الفصائل المسلحة ذات الطابع شبه الحكومي، وصولا إلى غياب القضاء وسيادة القانون.

ولم تعد خطوط الصدع محصورة بالعاصمة، بل امتدت لتطال مختلف أنحاء البلاد، في انعكاس مباشر لبنية الانقسامات السياسية والأمنية المتجذّرة منذ سنوات.

ورغم هذا التعقيد المتراكم بات الإخفاق الواضح للجهود الأممية أمرا يصعب إنكاره. فالأمم المتحدة، التي سبق أن لعبت أدوارا محورية في مراحل مختلفة، باتت مقيدة اليوم بتوازنات مجلس أمن منقسم ومصالح متضاربة بين القوى دائمة العضوية، لاسيما في ظل إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في حوض المتوسط، ما يجعل أي مقاربة مباشرة منها عرضة للشلل أو التعطيل.

◙ للاتحاد الأفريقي شرعية إقليمية كإطار جامع وقدرة على تقديم منصة حوار غير منحازة، إضافة إلى مرونته التنظيمية
◙ للاتحاد الأفريقي شرعية إقليمية كإطار جامع وقدرة على تقديم منصة حوار غير منحازة، إضافة إلى مرونته التنظيمية

أما الفاعلون الإقليميون، مثل مصر وتركيا، فرغم ما لهم من نفوذ وتأثير تُفقدهم تحالفاتهم الواضحة داخل الساحة الليبية صفة الوسيط المحايد، وتحصرهم في أدوار ترتبط بالمصالح أكثر من ارتباطها بالحلول.

وتتقدم مكانة الاتحاد الأفريقي كخيار واقعي يحمل إمكانات جدية. إذ لطالما تبنّى الاتحاد شعار “الحلول الأفريقية للمشكلات الأفريقية”، ولديه من التجارب التفاوضية وسجل الوساطات ما يكفي لتبرير انخراطه بفاعلية في أزمة ذات طابع إقليمي خالص مثل الحالة الليبية. كما أنه، بخلاف العديد من الفاعلين الآخرين، لا يرتبط بإرث من التدخل العسكري أو الاصطفاف السياسي داخل ليبيا، ما يمنحه قدرا نسبيا من القبول لدى الأطراف الليبية المختلفة.

وتتمثل أبرز مزاياه في شرعيته الإقليمية والدبلوماسية كإطار جامع للدول الأفريقية، وقدرته على تقديم منصة حوار غير منحازة نسبيًا، إضافة إلى مرونته التنظيمية التي تجعله أكثر قدرة على التكيف مع تعقيدات المشهد الليبي دون التورط في أجندات ثقيلة. كما أن الاتحاد يمتلك فرصة لبناء تنسيق متعدد الأطراف، من خلال شراكة مع جامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، ومجموعة العمل الأمنية، بما يتيح إنشاء آلية هجينة، مؤقتة وواقعية، تستطيع كسر الجمود وتهيئة الأرضية لتفاهم سياسي أكثر استدامة. غير أن هذا التفاؤل لا يمكن فصله عن خلفيات تاريخية معقدة.

ومنذ عام 2011 واجه الاتحاد الأفريقي تهميشا متكررا في الملف الليبي. فعندما تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا وتم تجاهل مبادرة الاتحاد للتفاوض بين النظام السابق والمعارضة، تكرس شعور دائم في أديس أبابا بأن ليبيا أُخرجت من الإطار الأفريقي قسرا. وحتى في المراحل اللاحقة، لم يُمنح الاتحاد أي دور

محوري في مؤتمرات كبرى مثل برلين، بل بقي الحضور الأفريقي رمزيًا. كما أن الانقسامات داخل القارة حول الملف الليبي أضعفت قدرة الاتحاد على تبني سياسة جماعية فعالة، إذ احتفظت بعض الدول مثل الجزائر وتشاد برؤى وأولويات أمنية خاصة تختلف عن بقية الأعضاء، ما قلل من فرص المبادرات المشتركة.

وفي المقابل كان أداء الأمم المتحدة منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020 متعثرا، وفشلت معظم المبادرات في الدفع نحو انتخابات أو تسوية سياسية دائمة. كما تراجع الانخراط الأوروبي المباشر في الملف الليبي لصالح أولويات أخرى كالحرب في أوكرانيا والهجرة، ما خلق فراغا تفاوضيا يتطلب فاعلًا حياديًا ومرنا لملئه.

ورغم محدودية قدراته اللوجستية والتنفيذية، يملك الاتحاد الأفريقي هامش تحرك أكبر في هذا الظرف، ويُنظر إليه كمؤسسة أقل ارتهانًا بالاستقطابات التي تمزق مجلس الأمن أو تربك القرار الأوروبي. لكن فاعلية الاتحاد تظل مشروطة بجملة من العوامل.

ودون دعم مالي وتقني من الشركاء الدوليين، وتنسيق وثيق مع بعثة الأمم المتحدة، فإن أي تحرك سيبقى شكليًا. كما أن نجاح أي مسار يقوده الاتحاد يتطلب تصميمًا مؤسسيًا يُبقي العملية متجذرة في السيادة الليبية، ويمنع الانزلاق نحو ترتيبات فوقية تُعيد إنتاج الوصاية أو تُكرّس موازين القوى الحالية.

ويجب أن يتمثل جوهر الدور الأفريقي في توفير مساحة تفاوض آمنة ومحايدة، لا تفرض نتائج، بل تضمن الحد الأدنى من التوازن، وتحول دون الانهيار.

ويرى محللون أنه لا يمكن لأي مبادرة خارجية أن تحل محل الليبيين في تقرير مصيرهم. لكن في لحظة انغلاق المسارات التقليدية، وتعثر الأمم المتحدة، وغياب وسطاء محايدين من القوى الإقليمية، فإن الاتحاد الأفريقي يملك مؤهلات واقعية لقيادة بداية جديدة، لا بوصفه الحل النهائي، بل كجسر ضروري للعبور من مرحلة الانسداد نحو إعادة إطلاق عملية سياسية تتجاوز الحسابات الآنية، وتُعيد الاعتبار لسيادة الليبيين على مستقبلهم.

وفي زمن تضيق فيه البدائل يصبح الفاعل الأقل تورطًا والأكثر قبولًا هو الأجدر بمنح الليبيين فرصة جديدة للتفاوض بعيدًا عن منطق الغلبة أو الاصطفاف.

اقرأ أيضا:

رسائل مضمونة الوصول من عرض "الكرامة" العسكري

6