الائتلاف الحكومي في ألمانيا من التبشير بفجر جديد إلى انهيار دراماتيكي

رغم أن انهيار الائتلاف الحكومي في ألمانيا كان متوقعا بالنسبة إلى المتابعين في ظل الخلافات الكثيرة بين أقطابه الثلاثة، إلا ذلك لا يمنع من القول إن تأثير الصدمة كان قويا، بالنظر إلى ثقل ألمانيا على الساحة الأوروبية، حيث تتربع على عرش اقتصاد القارة العجوز.
برلين - شكلت حكومة الائتلاف في ألمانيا، التي انهارت بشكل دراماتيكي ليل الأربعاء بعد ما يقرب من ثلاث سنوات في السلطة، توليفة غريبة. وعلى خلاف الظاهر، كانت عوامل انفجارها من الداخل متوفرة، ولم تكن تحتاج إلا لعود ثقاب فقط، وفره قرار المستشار أولاف شولتس، بإقالة وزير المالية كريستيان ليندنر.
وليندرز هو زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار الليبرالي الشريك في الائتلاف الحكومي، ولم تتعدى ساعات قليلة على قرار إقالته حتى أعلن بقية الوزراء الليبراليين انسحابهم من الحكومة لتفقد بذلك أغلبيتها في مجلس النواب.
وأتت الإقالة إثر خلافات عميقة بين شولتس وليندنر حول الميزانية والسياسة الاقتصادية التي يجب اتباعها، حيث يؤيد الأول إنعاش الاقتصاد الألماني المتعثر من خلال الإنفاق، بينما يدعو الليبراليون إلى خفض الإنفاق الاجتماعي وضبط الميزانية بشكل صارم.
وجاء هذا الزلزال السياسي في أسوأ وقت ممكن لألمانيا، إذ إنّ القوة الاقتصادية الأكبر في أوروبا تعاني حاليا أزمة صناعية خطيرة وتشعر بالقلق بسبب فوز الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتّحدة وما لهذا الفوز من تداعيات على تجارتها وأمنها.
وتزامنت الأزمة مع سعي أوروبا جاهدة لتشكيل جبهة موحدة في مواجهة جملة من التحديات بينها الرسوم الجمركية الجديدة المحتمل أن تفرضها إدارة ترامب، والتدخل الروسي المستمر في أوكرانيا ومستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تضارب الأجندات
الأزمة تزامنت مع سعي أوروبا جاهدة لتشكيل جبهة موحدة في مواجهة جملة من التحديات
الائتلاف الحكومي المنهار في ألمانيا كان عبارة عن تحالف بين ثلاثة أحزاب لها تاريخ مختلف تماما وأولويات مختلفة، وكان يتألف من حزبين يقعان تقليديا على يسار الطيف السياسي وهما الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر، إلى جانب حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي كان حتى ذلك الحين شريكا صغيرا مخلصا للمحافظين.
يقول تقرير لصحيفة “ذي غارديان” البريطانية إن التناقضات كانت جلية في تعاطي القوى الثلاث: توسيع الدولة ولكن أيضا تقليصها، إطلاق العنان للأعمال التجارية ولكن أيضا كبحها، الرغبة في كسر الأشياء ولكن أيضًا ضمان عدم تعرض أي شخص للقطع بالشظايا.
عندما تشكلت الحكومة في شتاء عام 2021، في نهاية حكم أنجيلا ميركل الذي دام 16 عاما، بدا هذا التحالف الغريب وكأنه فجر شيئا جديدا: حكومة مناسبة لمشهد سياسي لم يعد يهيمن عليه حزب كبير واحد على اليمين وحزب كبير واحد على اليسار ولكنه يشبه هولندا، مع المزيد والمزيد من الأحزاب الصغيرة التي تتخذ مواقف بينهما.
وفي عامها الأول في السلطة، كان التفكير غير التقليدي هو المطلوب على وجه التحديد. ففي خضم الاضطرابات التي أعقبت تدخل روسيا في أوكرانيا، أظهرت الحكومة الألمانية برئاسة شولتس، الجرأة التي وعدت بها حلفاءها الغربيين، فأوقفت مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، وأعلنت عن تحول تاريخي في الإنفاق الدفاعي وفطمت نفسها عن الغاز الروسي بسرعة ملحوظة.
وكانت تذكرة النقل الوطنية بقيمة 9 يوروهات شهريا، والتي تم تقديمها في صيف عام 2022 لمساعدة الناس على التكيف مع الارتفاع الناتج عن ذلك في أسعار الطاقة، ناجحة للغاية.
لكن بعد أن بدا وكأن أزمة الطاقة تم تجاوزها، واجهت الحكومة مشكلة. ففي الأيام الأولى للحكومة، أكد المتحالفون على وجود عدة قواسم مشتركة بينهم، وكان حزبا الخضر والديمقراطيين الأحرار أظهرا تركيزا على أهمية تحقيق الاستدامة الاقتصادية، ولكن بمجرد أن وصل الأمر إلى مستقبل صناعة السيارات الألمانية، أملت الاستدامة البيئية والاقتصادية سياسات مختلفة تمام الاختلاف، ومنع الديمقراطيون التخلص التدريجي من محركات الاحتراق التي كان الخضر يدفع باتجاهها.
وبحسب تقرير “ذي غارديان”، لم تكن ألمانيا خلال السنوات الثلاث الماضية تدار من ائتلاف من ثلاثة أحزاب، بل من خلال ثنائيات متميزة، كما يقول أندرياس بوش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة غوتنغن، “فقد تعاون الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الديمقراطيين الأحرار في القضايا الاقتصادية، وعمل الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر معا في السياسات الاجتماعية، ووحد الخضر والديمقراطيون قواهما في التعامل مع مخاوف الحقوق المدنية، مثل تقنين القنب وحماية البيانات”.
عجلة ثالثة
شولتس يأمل في تمرير بعض التشريعات التي تعتبر ذات أولوية من خلال الحصول على غالبية على أساس كل حالة على حدة
في أغلب الأحيان، كانت العجلة الثالثة هي التي تضغط على المكابح، ونتيجة لهذا كانت العديد من السياسات متوقفة. فقد أعلن شولتس عن تحول تاريخي في شؤون الدفاع، لكنه ماطل بعد ذلك في تصدير الأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا.
وضغط حزب الخضر من أجل استبدال المضخات الحرارية بسخانات الغاز في المنازل الألمانية، لكنه اضطر إلى التراجع، مما ترك الصناعة الناشئة في حالة من الفوضى. يقول بوش “كنا نتوقع التدمير الإبداعي، ولكن بدلا من ذلك حصلنا على التدمير ولا شيء من الإبداع”.
وحتى مدمنو الحشيش لم يكونوا راضين عن تشريع الحشيش الذي لم يكتمل بعد. فقد تم إلغاء تجريم حيازة الحشيش وزراعته للاستخدام الشخصي، ولكن الحكومة تراجعت عن خططها للسماح ببيعه من خلال الصيدليات، كما أعاقت البيروقراطية توزيع الحشيش من خلال “نوادي الحشيش” المسجلة.
أحيانا يبدو الأمر وكأن الأحزاب الثلاثة تعتقد أنها تحكم ثلاث دول مختلفة: كان الخضر يؤمنون بألمانيا التي يمكن أن تصبح إسكندنافية، وتتجمع وطنيًا حول قضية بيئية مشتركة. وكان الديمقراطيون الاجتماعيون يعتقدون أنهم يقودون ألمانيا في سبعينات القرن العشرين، حيث كان شولتس يوجه الأوامر مثل هلموت شميت في العصر الحديث. وكان حزب الديمقراطيين الأحرار يعتقد أنه يحكم ألمانيا المستقبل، حيث كانت السيارات الألمانية ضربة تصديرية لأنها تعمل بالوقود الإلكتروني الصديق للبيئة ولكن بأسعار معقولة والذي لم يتم اختراعه بعد.
السياسة المالية
وكانت السياسة المالية هي النقطة الرئيسية التي لم تتمكن فيها الأحزاب الثلاثة من إيجاد أرضية مشتركة. في البداية، خططت الحكومة لتمويل الإنفاق الإضافي على تدابير الدفاع والمناخ من خلال الائتمان الطارئ غير المستغل الذي تم تأمينه في الأصل للتعامل مع وباء كورونا. لكن حكم المحكمة الدستورية في نوفمبر 2023 ألغى ذلك وترك مسؤولي التحالف يتشاجرون حول كيفية سد الفجوة الناتجة عن المليارات في ميزانية 2025، لينتهي الأمر بهذا الانهيار الدراماتيكي للائتلاف الحكومي.
وفي معرض تبريره لقراره إقالة وزير المالية، صرح شولتس “نحن في حاجة إلى حكومة قادرة على العمل ولديها القوة لاتخاذ القرارات اللازمة لبلدنا”.
ومساء الأربعاء، قال شولتس إنّه أقال وليندنر لأنّه “خان ثقتي مرارا… العمل الحكومي الجدي غير ممكن في ظل ظروف كهذه”، منددا بسلوك “أناني”. من جهته، اتهم ليندنر شولتس بأنه يجر البلاد “إلى مرحلة من عدم اليقين” من خلال دفع “التحالف إلى انهيار مدروس”.
وبات شولتس يترأس حاليا حكومة أقلية ويأمل في تمرير بعض التشريعات التي تعتبر ذات أولوية من خلال الحصول على غالبية على أساس كل حالة على حدة.
أما بالنسبة إلى ميزانية 2025 التي تسبب إعدادها بالأزمة الحالية، فتسود حالة من عدم اليقين. وفي حال عدم إقرار ميزانية في البرلمان، سيكون من الممكن تطبيق نسخة بالحد الأدنى ومخفضة اعتبارا من يناير.
وأشار المستشار الألماني إلى أنه يعتزم طرح الثقة بحكومته أمام البرلمان في منتصف يناير المقبل، في خضم احتمالات كبيرة بألا تكون النتيجة لصالحه، ما سيمهد لإجراء انتخابات مبكرة.