الإمارات قوة صاعدة في سباق الذكاء الاصطناعي

استحوذ ملف الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة على اهتمام خاص في اللقاء الذي جمع رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الأميركي جو بايدن في سبتمبر الماضي. وجاء هذا الاهتمام من إدراك البلدين للإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تعزيز النمو الاقتصادي ودعم القطاعيْن الصحي والتعليمي وتوفير المزيد من فرص العمل وتدعيم جهود الاستدامة البيئية.
أبوظبي - جاء لقاء رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مع الرئيس الأميركي جو بايدن في ظل اهتمام عالمي بالغ بالذكاء الاصطناعي. فالتنافس بين الدول وشركات التكنولوجيا أصبح كبيراً، وتبارت في تخصيص الموارد والموازنات كي تضمن لنفسها مقعداً في المستقبل.
ويرى د. إيهاب خليفة، رئيس وحدة التطورات التكنولوجية في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أن هذا التنافس أظهر مجموعة من الدول، التي يمكن اعتبارها “صقوراً رقمية” صاعدة في مجال الذكاء الاصطناعي مثل الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى الهند والمملكة العربية السعودية والبرازيل.
واستحوذت هذه الدول على مراتب متقدمة في مؤشر “Tortoise Media” لتصنيف الدول في مجال الذكاء الاصطناعي الصادر عام 2024، فصعدت الإمارات من المرتبة 28 إلى المرتبة 20 عالمياً، وانتقلت الهند من المرتبة 14 إلى 10، فيما قفزت السعودية من الترتيب 31 لتستحوذ على المرتبة 14، وصعدت البرازيل من المرتبة 35 إلى المرتبة 30.
والدول التي شغلت المراتب الأولى هي الدول المتقدمة تكنولوجيا مثل الدول الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، وكذلك الصين وسنغافورة وتايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية واليابان، بالإضافة إلى إسرائيل.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة فقد ظهرت باعتبارها فاعلاً دوليا صاعدا في مجال الذكاء الاصطناعي، مدفوعة بعدة عوامل محفزة، من بينها الشراكات الدولية مع كبرى الشركات العاملة في هذا المجال مثل مايكروسوفت وغوغل وأوبن أيه آي، فضلاً عن الشركات الوطنية التي تعمل على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة مثل شركة جي 42، مستندة في ذلك إلى إستراتيجيتها الوطنية الشاملة للذكاء الاصطناعي 2031، بما يسهم في ترسيخ مكانة الدولة باعتبارها رائدة عالميا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
التميز الإستراتيجي
في رؤيتها للارتقاء إلى موقع ريادي عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي ركزت الإستراتيجية الإماراتية الشاملة للذكاء الاصطناعي على تحقيق التفوق في قطاعات محددة تمتلك الدولة فيها أصولاً قوية وفرصا واعدة لتحقيق قيمة مضافة حقيقية لها، فيما يعرف بـ”إستراتيجية النيش”، والقطاعات هي الطاقة والسياحة والخدمات اللوجستية والنقل والرعاية الصحية والأمن السيبراني.
وقد تم اختيار هذه القطاعات دون غيرها لأسباب اقتصادية خالصة؛ إذ تزداد فرص تحقيق مكاسب اقتصادية ووفرات مالية ضخمة عند توظيف الذكاء الاصطناعي فيها. وتشير التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعي قادر على توليد ما يصل إلى 335 مليار درهم إماراتي في اقتصاد البلاد من خلال تحفيز ودعم المشروعات الناشئة والمبتكرة في هذه القطاعات. وقد حددت الإستراتيجية الشاملة للذكاء الاصطناعي 2031 ثمانية أهداف ترتبط بدور الذكاء الاصطناعي وتطويره داخل الدولة، وهي:
1. ترسيخ مكانة الدولة كوجهة للذكاء الاصطناعي: من خلال دعم المشروعات الابتكارية والبحثية وتبني التقنيات الناشئة في هذا المجال.
2. زيادة تنافسية الإمارات العربية المتحدة في المجالات ذات الأولوية: وهي المجالات التي تم ذكرها سابقا؛ ما يسهم في تعزيز مكانتها التنافسية على المستوى الإقليمي والعالمي.
3. تطوير منظومة خصبة للذكاء الاصطناعي: من خلال إنشاء بيئة محلية محفزة على تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوفر التمويل والمعرفة والدعم الإستراتيجي، بما يسهم في خلق فرص لتأسيس شركات جديدة قادرة على تطوير منتجات وخدمات رائدة عالميا.
◙ الذكاء الاصطناعي قادر على توليد ما يصل إلى 335 مليار درهم إماراتي في اقتصاد البلاد من خلال تحفيز ودعم المشروعات الناشئة والمبتكرة
4. اعتماد الذكاء الاصطناعي في مجال خدمات المتعاملين: خاصة في التعليم والصحة والنقل وخدمة الزبائن؛ وقد يسهم استخدام الذكاء الاصطناعي في تقديم هذه الخدمات للمتعاملين بطريقة أفضل لتحسين مستوى المعيشة وتطوير أداء الحكومة.
5. استقطاب وتدريب المواهب على الوظائف المستقبلية التي تتطلب الذكاء الاصطناعي: من خلال إعداد كوادر بشرية متخصصة ومدربة على أحدث التقنيات، لضمان استمرارية التطوير وتلبية احتياجات السوق المستقبلية.
6. جلب القدرات البحثية الرائدة عالميا للعمل في القطاعات المستهدفة: فالاستثمار في قدرات البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي خطوة أولى ضرورية لتحقيق الريادة، ويتحقق ذلك من خلال توفير بيئة بحثية قادرة على اجتذاب المواهب العالمية لجذب الاستثمارات والبحوث العلمية المتقدمة التي تسهم في تطوير الذكاء الاصطناعي.
7. توفير البيانات والبنية التحتية الأساسية للذكاء الاصطناعي: تتمتع دولة الإمارات بميزة تنافسية مقارنة بغيرها من الدول فيما يتعلق بجمع ومشاركة البيانات؛ إذ تُعد بمثابة مختبر عالمي يجمع أكثر من 200 جنسية مقيمة في الدولة، وبالنظر إلى هذا المزيج الفريد للثقافات تعد مجموعات البيانات التي تمتلكها الدولة مثالية لتطوير نظم ذكاء اصطناعي يمكن استخدامها على نطاق عالمي. وتدرك الإمارات أن نفط المستقبل هو البيانات؛ لذلك تستثمر في خلق بنى تحتية تصبح بمثابة منصة اختبار للذكاء الاصطناعي.
8. ضمان الحوكمة القوية والتنظيم الفعال: تواجه عملية حوكمة الذكاء الاصطناعي عالميّا تحديات كبيرة بسبب التطورات المتسارعة في هذا المجال، لكن تصاعد الاهتمام العالمي بقضايا حوكمة الذكاء الاصطناعي يطرح فرصة أمام الحكومات لمواجهة هذا التحدي من خلال التعاون المشترك لضمان التنظيم الفاعل للذكاء الاصطناعي على الصعيدين المحلي والدولي.
ولضمان تحقيق هذه الأهداف عينت الإمارات أول وزير للذكاء الاصطناعي في عام 2017؛ لمتابعة خطة تحقيق هذه الأهداف، ووضع خارطة طريق متكاملة لتحقيق التميز في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وتدعيم مكانة الدولة بوصفها مركزاً عالميا للتكنولوجيا المتقدمة والابتكار.
شراكات دولية متعددة
لتدعيم مكانتها كقوة صاعدة في الذكاء الاصطناعي قامت الإمارات بإنشاء شراكات مع عدة دول، خاصة الولايات المتحدة والصين وفرنسا، بالإضافة إلى إطلاق مبادرات بالتعاون مع كبرى شركات التكنولوجيا في العالم.
وفي هذا الإطار أعلنت الإمارات والولايات المتحدة في سبتمبر 2024 المبادئ المشتركة للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي، والتي تم إقرارها من قبل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، والشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، نائب حاكم إمارة أبوظبي، مستشار الأمن الوطني. وتهدف هذه المبادئ المشتركة إلى تعزيز التعاون بشكل أكبر بين الطرفين، وتطوير الأطر التنظيمية وتعزيز نشر التقنيات الحساسة والناشئة بشكل آمن وموثوق، وزيادة الدعم المقدم للبحوث المشتركة بين القطاعين العام والخاص، والتبادل بين المؤسسات الأكاديمية في البلدين.
ولم يتوقف الأمر عند عقد شراكات دولية، بل شمل أيضاً إنشاء مراكز بحث وتطوير وشركات ناشئة وحاضنات أعمال، بالإضافة إلى ضخ استثمارات في الشركات التكنولوجية الكبرى، بما يخدم مصالح الدولة في هذا القطاع، ويمكن توضيح ذلك في التالي:
• شراكات دولية في الذكاء الاصطناعي: تشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الدفاع والرعاية الصحية والطاقة، فتم على سبيل المثال إنشاء مركز التميز للذكاء الاصطناعي المشترك بين شركة “IBM” وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وتم إطلاق مبادرات مثل “قوة المهام المعنية بالذكاء الاصطناعي” التابعة لمجلس الأعمال الأميركي – الإماراتي، فضلاً عن التعاون مع شركات مثل “Honeywell” لتوفير حلول مراقبة الأصول التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي؛ بهدف تحسين كفاءة عمليات شركة أدنوك في إدارة الطاقة.
وإلى جانب الشراكة مع الولايات المتحدة عقدت الإمارات شراكات مع دول أخرى، خاصة الصين وفرنسا؛ إذ تشارك شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، مثل “هواوي” و”علي بابا”، في مشروعات الذكاء الاصطناعي داخل الإمارات، كما تنشط شركات التكنولوجيا الفرنسية مثل “تاليس” في قطاعات الدفاع والفضاء الخاصة بالذكاء الاصطناعي في الإمارات.
• مراكز البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي: أنشأت الإمارات مراكز بحثية مثل جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في أبوظبي، والتي تركز على تعليم وبحوث الذكاء الاصطناعي؛ وهو ما يجعلها مركزاً للتعاون والابتكار الدولي، ومعهد الابتكار التكنولوجي، وهو بمثابة مركز عالمي للبحوث التطبيقية في الذكاء الاصطناعي، ويُعد الذراع البحثية التطبيقية لمجلس أبحاث التكنولوجيا المتقدمة، وكذلك أكاديمية دبي للذكاء الاصطناعي والويب 3، ومركز دبي لاستخدامات الذكاء الاصطناعي.
◙ الحكومة الإماراتية قامت بالاستثمار في شركات وطنية ضخمة قادرة على أن تصبح قاعدة صناعية متطورة تحمل عبء النهوض بهذه الصناعة الوليدة
• الشركات الناشئة وحاضنات الأعمال: أنشأت الإمارات نظاما بيئيّا لدعم الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال برامج مدعومة من الحكومة، مثل “مسرعات دبي المستقبل” و”Hub71″. وتهدف هذه المنصات إلى تشجيع الابتكار المحلي في الذكاء الاصطناعي وجذب الشركات الناشئة العالمية لتطوير حلول في الإمارات.
• الاستثمارات في الشركات العالمية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي: استثمرت الإمارات أيضا في شركات ناشئة وشركات قائمة في مجال الذكاء الاصطناعي حول العالم. ومن أبرز هذه الاستثمارات ما قامت به شركة مبادلة للاستثمار، التي خصصت أموالاً كبيرة للمشروعات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الشراكات مع الشركات الدولية في وادي السيليكون.
وإدراكاً منها لأهمية بناء وتطوير القدرات المحلية والوطنية في مجال الذكاء الاصطناعي قامت الحكومة الإماراتية بالاستثمار في شركات وطنية ضخمة قادرة على أن تصبح قاعدة صناعية متطورة تحمل عبء النهوض بهذه الصناعة الوليدة، كما قامت أيضاً بالاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي؛ إذ تشير التوقعات إلى أن استثمارات الإمارات في الذكاء الاصطناعي سوف تصل إلى 33 مليار درهم (نحو 9 مليارات دولار) بنهاية العام 2024. بالإضافة إلى ذلك تسعى الإمارات إلى رفع حجم استثماراتها في الذكاء الاصطناعي إلى 50 مليار دولار بحلول عام 2025، وتشير تقديرات شركة “بي دبليو سي” إلى أن الذكاء الاصطناعي سوف يسهم بنحو 96 مليار دولار في اقتصاد الإمارات بحلول عام 2030؛ أي ما يعادل 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي النهاية فإن سباق الدول نحو تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي قد بدأ، وأصبحت أمام دولة الإمارات العربية المتحدة فرصة كبيرة لتقديم نفسها كقوة صاعدة جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، بما تمتلكه من بنية تحتية متطورة ومراكز أبحاث وشركات وحاضنات أعمال وتشريعات ومؤسسات حكومية، يمكن الوثوق بها للانطلاق نحو مستقبل أكثر أمانا ورخاءً.