الإفراج بالتنقيط عن المعتقلين في مصر يحد من أهميته السياسية

الحكومة المصرية تلتف بنفسها على المكاسب الحقوقية التي تريد أن تحققها من خلال الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، وذلك من خلال الإفراج المحدود الذي يدفع المنظمات الحقوقية إلى المزيد من المطالب بدلا من التعامل مع الإفراج على أنه خطوة إيجابية.
واصلت لجنة العفو الرئاسي المسؤولة عن وضع قوائم للإفراج عن معتقلين في مصر دورها بالإعلان، وبصورة شبه دورية، عن أسماء جديدة تتراوح بين الثلاثين والأربعين شخصا، ولا تزال هناك أسماء لامعة طالبت قوى معارضة بإدراجها يتم تجاهلها، ما يقلل من أهمية الجهود التي تقوم بها لجنة العفو، والهدف منها أصلا كان منصبّا على الإفراج عن ما تبقى من محبوسين في قضايا رأي وحريات.
وانعكس التراخي على تفاعل بعض أحزاب المعارضة مع الحوار الوطني، والذي وضع ملف الإفراجات في مقدمة موضوعاته، وبدأت تلوّح بإمكانية المقاطعة، مع أن الحوار يقترب من عقد اجتماعاته عمليا، وأصبحت الحكومة مطالبة بتسريع الخطوات التي تقوم بها في مجال العفو قبل أن تفقد اللجنة جدواها السياسية.
وأخذت عملية الإفراج على دفعات قليلة، أو ما يصفه مراقبون بالتنقيط، تثير علامات استفهام، لأن الرهان عليها كان كبيرا، كخطوة جريئة تغلق ملفا شائكا طالما مثّل منغصا في العلاقات بين منظمات حقوق الإنسان الدولية والقاهرة.
وقد تداخلت الحقائق مع الشائعات، والمبالغات مع الواقع العملي، بما قاد إلى وضع ملف بعض الشخصيات السياسية والمحبوسين على ذمة قضايا تتعلق بالعمل العام أو تم تكييفها كجرائم جنائية وليست سياسية، في خانة مشبوهة، ألقت بظلال قاتمة على سمعة الحكومة المصرية في المجال الحقوقي عموما.
وإذا كانت القاهرة صاغت وثيقة جيدة لحقوق الإنسان وروّجت لمفهومها بحيث لا يقتصر على الشق السياسي، فإن كل الخطوات الإيجابية التي اتخذتها ظلت محكومة بما تقوم به من تحركات في ملف الإفراج عن المعتقلين، لأنه بات العنوان الأبرز للحكم على مدى مصداقيتها السياسية، مع توسيع نطاق الحريات ومنح وسائل الإعلام هامشا كبيرا من الحركة بعيدا عن الضوابط التي تضعها الحكومة.
وثمنّت قوى معارضة إخلاء سبيل المئات من المعتقلين، وتتمنى أن تتسارع تحركات الحكومة في التركيز على أصحاب القضايا التي لها علاقة بحرية الرأي، لأنها تقلل من حجم الاحتقان في الشارع المصري الذي أصبح معبّأ بهموم اقتصادية كبيرة.
ويؤدي تضافر الاحتقان السياسي مع الهموم الاقتصادية إلى تصاعد حدة الغضب، في وقت لم تعد فيه الحكومة على استعداد لتحمّل أزمة تؤثر على تركيزها في البحث عن تخفيف أعباء أزمة اقتصادية خاصة، تتطلب المزيد من الجهود لفك عقدها الاجتماعية.
وربما يكون ملف الإفراجات يعني شريحة محدودة منغمسة في السياسة أو مهتمة بها، غير أن رمزيته تتجاوز ذلك، حيث تحتاج الحكومة إلى التفاف شعبي حولها يساعدها على الصمود والمقاومة في مواجهة أزمة اقتصادية طاحنة.
ولا تريد تشويشا على تفكيرها من قبل قوى سياسية قررت عدم التفريط في ملف الإفراج عن المعتقلين، إذ تحوّل إلى اختبار جدي للتغيير في الآلية التي تدير بها الحكومة دولاب الدولة وأفضت إلى مشكلات ظهرت ملامحها في المجال الاقتصادي، ولم تكن الأجواء العالمية مواتية فزادت من تعقيداته.
البطء في الإفراج عن المعتقلين يعرقل زيادة منسوب الثقة المطلوب في النظام الحاكم
وتتحمل القاهرة فوق طاقتها المادية الآن، ما يفرض عليها تخفيف الطاقة المعنوية، ممثلة في ضرورة القيام بقفزة تضمن لها تأييد القوى السياسية المؤيدة والمعارضة معا، وتلك التي ابتعدت عن الاشتباك مع الفضاء العام وتمثل كتلة حرجة مهمة يحتاج جذبها إلى تبني خطوات نوعية تجبرها على التخلي عن عزوفها.
ويعرقل البطء في الإفراج عن المعتقلين زيادة منسوب الثقة المطلوب في النظام الحاكم، والذي يحتاج إلى التفاف كبير حوله ليتمكن من تخطي هذه المرحلة، ولذلك فالإعلان عن خروج المحبوسين السياسيين، في قضايا لا علاقة لها بالعنف أو الإرهاب، دفعة واحدة هو وسيلة وليست غاية.
وتفتح هذه الوسيلة نوافذ الأمل في ما تتبناه الحكومة، وتبعث بإشارات تعيد الثقة في خطابها السياسي بعد أن فقد جزءا من حيويته جراء شعور قطاع من المواطنين بوجود تخبط في التعامل مع توابع أزمة اقتصادية تنتظرها تحديات يصعب عبورها دون غطاء شعبي متماسك.
وتسبب البطء في ملف الإفراج عن أسماء معروفة سياسيا في إضفاء مصداقية على تكهنات ذهبت إلى أن الحكومة تعتقد أن هذه الخطوة تزيد السخونة في الشارع، فإذا كانت تطمئن قوى معارضة، فهؤلاء أو بعضهم كانت لهم أدوار مؤثرة في ثورة يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبل من رموزها، ويمكن الاستفادة من خبرتهم في صب الزيت على النار حال خروجهم واستعادة نشاطهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي يزداد تأثيرها حاليا.
الحكومة لا تريد تشويشا على تفكيرها من قبل قوى سياسية قررت عدم التفريط في ملف الإفراج عن المعتقلين
ويرد رافضون على هذا الاستنتاج بأن غالبية الإفراجات مشروطة ضمنيا أو صراحة، وكل من أفرج عنهم أو الغالبية العظمى منهم لم يسمع صوتها مدويا في الشارع أو على المنصات، والتزمت الصمت تقريبا، ما يعني أن هناك اتفاقا وديا ينزع القلق المتوقع ويمنح الحكومة هدوءا، لأن قضيتها الرئيسية اقتصادية وتحتاج إلى معالجة حكيمة، ويدرك معارضو الحكومة أن توظيفها سياسيا قد ينقلب وبالا على الجميع.
وأخطأت الحكومة تكتيكيا عندما ضمت ملف الإفراج عن المعتقلين السياسيين مع غيرهم من المحبوسين في قضايا أخرى، لأن الأعداد التي تم إطلاق سراحها وتتجاوز الألف يتم التعامل معها على أنها لشخصيات سياسية، مع أن نسبة كبيرة منهم تتجاوز نصف العدد الكلي تم حبس أصحابها في قضايا بعيدة عن السياسة، ما يقود إلى يقين لدى منظمات حقوقية محلية وخارجية أن عدد المعتقلين السياسيين يعد بعشرات الآلاف.
وكذبت الحكومة الكثير من التقارير الذي قدرت العدد بنحو ستين ألفا دون أن توضح الرقم الحقيقي بشكل محدد، لكن خطابها الرسمي يؤكد أنهم بضع مئات، وأن ثمة مبالغة وتسييسا غرضه وضع القاهرة تحت ضغوط حقوقية مستمرة، تمهيدا لفتح ملف معتقلي الإخوان الغائب في ملف الإفراجات في أجندة المعارضة المدنية.
ويعزز الإفراج بالتنقيط والجمع بين السياسي والجنائي رؤية مناوئي النظام المصري في تقدير العدد الكلي وترجيح كفة الرقم الأكبر واستمرار المنغصات الناجمة عنه، بما يقلل من قيمة مهمة تنطوي عليها جهود لجنة العفو الرئاسي التي تحتاج إلى إعادة نظر وصياغة رؤية تأخذ في حسبانها الأجواء العامة في الداخل، في وقت فقدت فيه هذه الورقة زخمها الخارجي.
ويضرب قيام الحكومة بخطوة نوعية تتضمن التخلي عن منهج التنقيط وغلق ملف المعتقلين بالإفراج العام عنهم عصفورين بحجر واحد، الأول أن هذا القرار اتخذ بموجب الإرادة الوطنية البحتة وبعيدا عن أيّ ضغوط خارجية، والثاني طي الصفحة الماضية وبدء صفحة جديدة تستعيد جزءا من عافية الالتفاف الشعبي حول الرئيس عبدالفتاح السيسي كما كان وقت انتخابه.