الإعلام المصري يحرق رصيده: من الاحتراف إلى شراء الزمار

لا أحد يعرف اسم المواطن المغربي الذي اقتحم موكب جمال عبدالناصر في الرباط، واستأمنه عندما يعود إلى القاهرة على إبلاغ السلام إلى إسماعيل ياسين. الزعيم الذي قتلته كثرة القراءة والانكسارات والأخطاء ربما أدرك، في تلك اللحظة، صدق استراتيجيته، في كتابه المبكر “فلسفة الثورة”، لرسم خارطة جيوسياسية من ثلاث دوائر: عربية وأفريقية وإسلامية، في مواجهة العدو الإسرائيلي.
وكانت أدوات مصر إلى تلك الدوائر أسبق من عبدالناصر، ومحمولة إلى حد كبير على اللهجة العامية المصرية، وتنطلق من فائض القدرة على احتضان المواهب والكفاءات العربية، وإنتاج الفنون والثقافة، والثقة بمؤسسات دينية وتعليمية وتربوية وإعلامية، منها إذاعة صوت العرب و”التلفزيون العربي” وهو الاسم الرسمي للتلفزيون المصري في مرحلة الاستقلال، وبعد التبعية السياسية والنفسية ينتظر التلفزيون الرسمي، منذ سنوات، تحديد موعد جنازته. وتنفيذا لمقولة “شراء العبد ولا تربيته”، بدأ الزحف الحكومي للاستحواذ على الفضائيات والصحف الخاصة، وبدلا من مراعاة احتراف مهني يتضمن أحيانا الدفع للزمار، جاءت المصارحة بشراء الزمار والمزمار، وليس الاكتفاء بتحديد نوع النغمة.
وقد استغنى الرصيد المصري الهائل عن الدعاية، ولم يكلفنا شيئا، بل نما وتوالد ذاتيا، وحصدنا ثماره المباشرة وغير المباشرة، في الاقتصاد، وفي القدرة على التأثير، وفي صون كبرياء المواطن.
كان “الحضور” المصري أكثر إقناعا وتأثيرا من تجربة الدبلوماسية الثقافية الأميركية، ابتغاء أهداف غير بريئة بالطبع، بتجنيد الولايات المتحدة فنانين وراديكاليين متقاعدين ويساريين تائبين صقور مخصية، عبر مكاتب “منظمة الحرية الثقافية” التي نشطت في 35 دولة بين عامي 1950 و1967، وأصدرت أكثر من 20 مجلة، ونظمت معارض فنية ومؤتمرات دولية ومنحت جوائز، بهدف مكافحة الشيوعية، والاستلاب الهادئ لضبط الإيقاع العام على التردد الثقافي الأميركي.
وكان المتعاونون مع “منظمة الحرية الثقافية” زمّارين تدفع لهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) من خلال تلك المنظمة. وتورد الباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز في كتابها “من الذي دفع للزمار؟.. الحرب الباردة الثقافية” قول أحد القافزين من سفينة الاشتراكية إلى اليمين “تركنا أنفسنا نسقط في فخ وفي أسر كلماتنا، ذلك الطعم اليساري… الشخص التقدمي من غير اليسار الشيوعي في حالة رجفة مستمرة، رجفة شعور بالذنب أمام الشيوعية الحقيقية، والشيوعي الذي يتلاعب بالخطاب نفسه، ولكنه يتصرف بثبات وجسارة، يظهر أمام اليساري غير الشيوعي وأمام نفسه شجاعا”. وتلخصت رؤية الاستخبارات الأميركية، في التأثير على الأفكار والتوجهات والسلوك، في هذا النهج: “كان يتم تعريف الدعاية الأكثر تأثيرا بأنها تلك التي يتحرك فيها الشخص المستهدف في الاتجاه الذي تريد لأسباب يعتقد أنها أسبابه”.
إنفاق مبالغ كبيرة على الصحف والفضائيات الخاصة، دون طرح خطة لانتشال التلفزيون الحكومي من مصيره
ليس من التقاليد الإعلامية المهنية، وفوق قدرة الاحتمال الآدمي للمشاهد، أن يستأثر مذيع بالكاميرا ساعتين أو ثلاثا، يصول ويفتي ويشرح وينتقد ويهاجم ويهادن ويدعم ويصرخ ويتشنج فتنتفخ عروق رقبته، وهو يمثل دور خبير في العلاقات الدولية، أو سياسي أكثر حكمة من الآخرين. ولكنه رغم الاستئساد على قليلي الحيلة يعجز عن الرد على “ضيف” ينهره بإجابة مفاجئة. ففي بداية مايو 2014 كان المواطن عبدالفتاح السيسي، المشير وزير الدفاع السابق، مرشحا لرئاسة الجمهورية، واستضافه إبراهيم عيسى ولميس الحديدي معا في برنامج بفضائية يملكها أحد رجال المال، وكان صوت السيسي خفيضا وهو ينادي المذيعة أكثر من مرة “يا أستاذة لميس”.
وسأله عيسى عما إذا كان وجود رئيس قادم من المؤسسة العسكرية يعني أن المؤسسة العسكرية تحكم، أي أن “العسكر يحكم”، “وفيه حكم عسكري”؟ فرد السيسي “أنا لن أسمح لك أن تقول العسكر تاني، بصراحة كده، لأ طبعا”. ثم ضاق النهر بفيضان عنيف جرف، من بين ما جرف، إبراهيم عيسى وأصحاب الحظوة المرضيّ عنهم، فألغيت برامجهم تباعا واختفوا مؤقتا، ومنهم مذيعة كان السيسي يخاطبها “يا أستاذة لميس”، وقد فوجئت يوم 1 سبتمبر 2018 بإلغاء برنامجها، من دون إبداء أسباب قبل لحظات من بدء البث المباشر، ولسان الحال يقول لها: (Game Over)، فغادرت الأستوديو في صمت سبقها إليه إبراهيم عيسى وآخرون، ولم يجرؤ أي منهم على لوم مالك أي قناة، أو انتقاد القبضة الحاكمة. فمن يعرف أن له دورا محددا في لعبة، لن يثور على قوانينها، والقوانين مرنة يضعها وينفذها القادر على المنح والمنع، وهذا شأنه في رفع من يشاء، أو تعليق الاعتماد على خدماته، فالزمار موظف يعاقَب أحيانا، وليس له حق السؤال عن السبب، ربما لأنه يثق بأنه مرفوع مؤقتا من الخدمة، وأنه في اختبار للقدرة على الصمت والتحمّل، تمهيدا لتكليفه بمهام أخرى، عندما يقرر ولي النعم.
لم يتصور عاقل أن يقوم شخص عاقل بالتحريض على القتل، علنا في التلفزيون. ليست زلة لسان تلك التي ينفثها في الكاميرا والميكروفون شخص يفترض فيه حد أدنى من الرشد. ولا يختلف في ارتكاب هذا الخطأ من يصطف مع السلطة عمن يعلن الحرب عليها ويوجه فوهة النيران إلى المواطنين أيضا. هل لهذا المرض والهوس علاقة بفكرة النقاء والاستعلاء.. بالعرق والدين والمذهب والانتماء لجماعة أو تنظيم أو حزب أو سلطة؟ في غياب التفاعل البشري وتغييبه تقع هذه الأوهام، ويستطيع الواهم اكتشاف سخافاته بمخالطة آخرين مختلفين ينبهه أداؤهم الرفيع إلى حقيقته. وترحب المجتمعات القوية المستقرة، وتلك الراغبة في النهوض، بالآخر المحترف الراغب في الإسهام، ففي الكويت أرسى زكي طليمات أسس النهضة المسرحية، ولا ينسى قارئ مجلة “العربي” أن الدكتور أحمد زكي أول رئيس لتحريرها منذ بدء صدورها عام 1958 حتى وفاته عام 1976، وخلفه في رئاسة التحرير أحمد بهاء الدين حتى عام 1982. وتولى رجاء النقاش رئاسة تحرير مجلة “الدوحة” منذ عام 1976 حتى توقفها عام 1986. وسبق الشعر والموسيقى غربا، فالنشيد الوطني التونسي هو قصيدة لمصطفى صادق الرافعي، ولحّن محمد فوزي النشيد الوطني الجزائري عام 1956، وفي نوفمبر 2017 أطلق اسم فوزي على المعهد الوطني العالي للموسيقى بالجزائر التي منحته “وسام الاستحقاق الوطني”. وآخر الحضور المصري هو النشيد الوطني الموريتاني الذي لحّنه راجح داود في نهاية عام 2017. وأسهم الناقد السينمائي سمير فريد بأدوار في مهرجانات وأنشطة سينمائية عربية آخرها إدارة مهرجان أبوظبي السينمائي في دوراته الأولى.
وفي مقابل الترحيب المشرقي والمغربي الرسمي بالمصريين استنكر مصريون إسناد إدارة مهرجان الجونة السينمائي إلى الناقد السينمائي العراقي انتشال التميمي، وليس الرجل غريبا على مصر ومهرجاناتها وسينمائييها، ولم يقنعهم أن مهرجان الجونة أهليّ لا تنفق أو تشرف عليه الدولة، وأن من حكم في مهرجانه فما ظلم. ولا يتذكر الشوفينيون أن النهضة الصحافية والفنية والثقافية في مصر أسهم فيها غير مصريين بأنصبة متفاوتة، ولم يسأل محب للسينما يوما عن جنسية وداد عرفي ذي الأصل التركي الذي بدأ إخراج فيلم “ليلى” عام 1927، وهو أول فيلم مصري، ثم اختلف مع منتجته وبطلته عزيزة أمير، فأكمل الفنان خفيف الروح استيفان روستي إخراجه.
في الإنفاق ببذخ للتكويش على الصحف والفضائيات الخاصة، لم تُطرح خطة لانتشال التلفزيون الحكومي من مصيره، ويبدو أنهم تركوه ليموت بهدوء، وبلا عزاء من عرب لم يروا أنفسهم في مرآته، فضاعت على مصر سنوات يصعب تعويضها. وكان اللبناني داود بركات رئيس تحرير صحيفة الأهرام أكثر وعيا بأهمية الثقافة والفنون، فنشر في الأهرام في 1 نوفمبر 1927 مع الانتهاء من فيلم “ليلى” محتفيا بميلاد فن السينما، “أخيرا.. ظهر في جو مصر نجم لامع وكوكب ساطع يريد أن يخدم مصر وأبناء مصر.. يريد أن يقوم ببروباغندا هائلة لمصر وأبناء مصر.. ما هذه البروباغندا التي تخدم الوطن أكبر خدمة. هي السينما.. السينما المصرية القومية البحتة”.
وبعد تسعين عاما تؤدي حماقات الإعلام أدوارا في بروباغندا مضادة، فكيف نعيد ثقة العرب بدور مصر؟ هذا هو سؤال الساعة.