الإسلام السياسي المعولم يعيد إسلاميي تركيا إلى أوهام العثمنة

نموذج الحكم في تركيا، الذي بدا في سنواته الأولى ناجحاً في إنقاذ البلاد من مشاكلها المزمنة، قام في الأساس على توليفة غريبة غير متفاهمة تاريخيا بل ومتناقضة فلسفيا وفكريا، وتنظيميا، ومتناحرة أيديولوجيا من أخمص القدم إلى قمة الرأس.
هذه التوليفة نجحت لفترة من الزمن، ولفتت إليها الانتباه لجمعها بين قيم أربع مختلفة، ما إن تنافست في بلاد ما على كرسي الحكم، إلا وأوشكت أن تدخله حروبا أهلية لا تنتهي، وهذه القيم الأربع هي الديمقراطية والعسكر والعلمانية والإسلام الإخواني المعولم. فكيف لبلد له هذه التنويعات الفكرية والتنظيمية أن تسيره حكومة إسلام سياسي، وأن تحوله من بلد يعاني اقتصاده من التدهور في عام 2001 إلى بلد احتل المرتبة السادسة عشرة في ترتيب أكبر الاقتصاديات العالمية.
ولكن في المقابل فإن السنوات السبع الأخيرة كانت كافية لينزع خلالها الحزب الإسلامي الحاكم من صندوق الديمقراطية في تركيا جميع نقاط قوتها ليحقق هدف البقاء في الحكم إلى أجل غير معروف، فبعد تلك الطفرة، تؤكد المؤشرات الحالية إلى أن تركيا تراجعت إلى المرتبة التاسعة عشرة في ترتيب الاقتصاديات في العالم، وهي ذات المرتبة التي بدأت منها عام 2002. إذ سرعان ما انخفض دخل الفرد التركي إلى 10.840 دولار في العام 2015 بدلاً من الارتفاع كما كان متوقعا.
وتعود أسباب هذا التدهور في الاقتصاد التركي إلى عوامل داخلية وخارجية. أما الداخلية منها فتعود إلى نظرتها من خلال إسلامها السياسي عند معالجتها لأزمة معينة، وعدم اعتمادها حسابات الكلفة الدقيقة في إدارة أي صراع سياسي أو اقتصادي، وهو ما حدث في إسقاط الطائرة الروسية سوخوي 24، وحربها مع حزب العمال الكردستاني، الذي شل الكثير من المشاريع الزراعية الناجحة في الجنوب، والتي تعتبر سلة غذاء تركيا، وعلاقاتها التجارية النفطية المريبة مع حكومة إقليم كردستان وداعش، ودخولها العسكري للأراضي العراقية، من دون موافقة الحكومة العراقية، سواء في شمال إقليم كردستان أو بعد توغلها الأخير بمنطقة بعشيقة القريبة من الموصل.
سلوك الإسلام السياسي هو ذاته عندما يحكم بلدا إما الحصول على كل شيء و إما خسران كل شيء وهذا منطق انتحاري
وأجرت الحكومة تعديلات دستورية كثيرة، لنزع مفاصل آليات العمل الديمقراطي، ومنها تحجيم دور الجيش للدفاع عن علمانية الدولة، بمنعها المؤسسة العسكرية من التدخل في أمور السياسة، وقد منحت هذه المؤسسة في الدستور سابقا الكثير من الصلاحيات لحماية العلمانية.
وبواسطة الإحالة على التصويت الشعبي حذفت أو غيرت الكثير من الصلاحيات، وبشكل ممنهج ومدروس لصالح النظام الإسلامي، وحددت دور الإعلام في نقد الحكومة ورئيسها، وفرضت قيودا صارمة على حركة الصحفيين، وأوحت للناخب أن بديلها هو عدم الاستقرار والإرهاب.
أما العوامل الخارجية، فقد كانت السياسة الخارجية معتدلة و”بعيدة” عن إسلامها السياسي، وضعها أحمد داودأوغلو رئيس الوزراء الحالي عندما كان وزيراً للخارجية، وله نظريات مشهورة حول مكانة تركيا، كنظرية التحول الحضاري والعمق الاستراتيجي والعثمانية الجديدة.
وكانت توجهاته، انتهاج دبلوماسية التصفير للمشاكل مع الدول، ودبلوماسية التصفير تعني تصغير المشاكل وجعلها صفرا، كما حدث على سبيل المثال من محادثات مع العدو التقليدي لتركيا أرمينيا. وكذلك دور تركيا في الوساطة بين سوريا وإسرائيل، وتبنّي بعض قضايا الشعب الفلسطيني كحصار غزة، حتى ولو كان ذلك على حساب علاقتها القديمة باسرائيل، ومحاولاتها بناء علاقات استراتيجية مع العراق، بفتحها قنصليات في البصرة وأربيل.
لكن تركيا وبسبب إسلامية النظام بدأت بنسف جميع ما بدأته في السنوات الأخيرة في علاقاتها الخارجية، وعاد أردوغان إلى أصوليته السياسية، التي تدعو إلى نزع تروس صندوق الديمقراطية في تركيا، وعثمنة المنطقة بإحياء الحلم الإمبراطوري العثماني القديم من خلال تجسيد “نظرية العثمانية الجديدة” لأوغلو على الواقع الحالي، حتى لو خسرت تركيا كل شيء، وهذا هو سلوك أصحاب الإسلام السياسي عندما يحكمون بلداً، الحصول على كل شيء أو خسران كل شيء.