الإسلاميون في تونس يستغلون أزمة كورونا لاستعادة ثقة الشارع

يُكابد التونسيون من أجل كبح جماح فايروس كورونا المستجد الذي يفتك بأرواح العشرات يوميا ما جعل الوضع الصحي في البلاد حرجا، الأمر الذي فتح الباب أمام الإسلاميين للتحرك في محاولة تبدو في ظاهرها لمد يد العون لكن باطنها يمثل تحقيق المزيد من التمدد السياسي والاجتماعي، خاصة في ظل تراجع حركة النهضة التي تمثل هؤلاء شعبيا.
تونس – تثير تحركات فجرت جدلا واسعا في تونس مخاوف من أن يستغل الإسلاميون الممثلون في حركة النهضة والمقربين منها جائحة كورونا للتمدد سياسيا واجتماعيا، خاصة في ظل حالة التشرذم التي تخيم على مؤسسات الدولة ما يمنح هؤلاء مساحات للتحرك.
وأعلن رئيس بلدية الكرم المثير للجدل فتحي العيوني عن تخصيص جزء من بناية البلدية كمستشفى ميداني، فيما تناقلت أوساط على مواقع التواصل الاجتماعي تصريحا له يتعهد فيه بتمويل المستشفى من خلال صندوق الزكاة الذي قام بإنشائه في وقت سابق.
وأصدرت بلدية الكرم الاثنين قرارا يقضي بوضع جزء من مقر البلدية المخصص للاجتماعات والتظاهرات والأفراح على ذمة وزارة الصحة، مشيرة إلى أن قرارها “يأتي في إطار دعم المجهود الوطني لمجابهة جائحة كورونا ونظرا لخطورة الوضع الصحي وتفاقم عدد الإصابات بالوباء”. وأشار البيان الذي وقعه العيوني إلى أن طاقة استيعاب المستشفى تصل إلى 60 سرير إنعاش.
والعيوني هو من بين الوجوه المقربة من النهضة التي ما انفكت تقوم بتحركات تفجر سجالات بشأن الهوية وغيرها، وهو ما جعل الشكوك تخامر المتابعين إزاء خطوته بشأن فايروس كورونا المستجد الذي يستمر في التفشي في تونس بوتيرة سريعة.
والجدل لم يتصل فقط بخطوات العيوني حيث لم تتردد الكثير من الأوساط التونسية في التحذير من إمكانية استغلال الفايروس من طرف جمعيات ومنظمات في المجتمع المدني تواجه اختراقا من قبل الإسلاميين، خاصة في المناطق التي تشهد تهميشا متزايدا من قبل الدولة.
وتواجه تونس موجة من الوباء أشد فتكا حيث تسجل أرقاما قياسية أرغمت السلطات على استنفار الجيش الوطني والقوات الأمنية وغير ذلك من الجهود لتطويق الفايروس. وأعلنت السلطات الصحية ليل الثلاثاء تسجيل 7930 إصابة جديدة و119 حالة وفاة في 24 ساعة وهي أرقام قياسية لم تسجلها البلاد من قبل.
تحركات مكثفة
يبدو أن حركة النهضة تناور من خلال تحركاتها لإقناع التونسيين بأنها تعمل على سد الفراغ الذي تركه غياب الحكومة في مجابهة فايروس كورونا المستجد والذي أفضى إلى تفجر الوضع، ما يجعل الفرصة سانحة لها لكسب ود التونسيين مجددا.
وقال المحلل السياسي إبراهيم الوسلاتي إن “حركة النهضة استشعرت عجز الحكومة التي هي المكون الرئيسي لحزامها السياسي والبرلماني وكذلك حالة الغضب في الرأي العام التونسي الذي يحمّلها مسؤولية تدهور الأوضاع على جميع المستويات، فبدأت تسوّق لتحركات رئيسها واتصالاته مع عدد من كبار المسؤولين الأجانب لحثهم على مساعدة تونس والتفكير في وضع خطة موازية لمكافحة الوباء”.
وتواترت خرجات ممثلين عن النهضة في وسائل إعلام محلية يحمّلون فيها وزير الصحة فوزي عبدالمهدي مسؤولية خروج الوضع عن السيطرة، فيما طالب بعضهم بإقالته رغم أن الرجل شمله التعديل الوزاري الذي أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشي في وقت سابق ورفضه الرئيس قيس سعيد ما عطل تفعيل ذلك التعديل.
وأضاف إبراهيم الوسلاتي، في تصريح لـ”العرب”، “يتنزل في هذا الإطار قرار رئيس بلدية الكرم فتحي العيوني المحسوب على النهضة تخصيص جانب من بناية البلدية لتركيز مستشفى ميداني، ومن غير المستبعد أن تحث الحركة الإسلامية التي تسيطر على عدد هام من البلديات على اللجوء إلى هذا الخيار بمباركة من رئيس الحكومة هشام المشيشي”.
وحاول العيوني والدوائر المقربة منه ومن الإسلاميين تدشين جدل آخر بشأن صندوق الزكاة، حيث أطلقت العديد من الأوساط المقربة من العيوني حملات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي يتم فيها تناقل تصريح له بشأن تمويل المستشفى الميداني الذي أنشأه بأموال من صندوق الزكاة الذي ركزه في وقت سابق على وقع انتقادات لاذعة.
ويرى مراقبون أن الهدف من هذه الحملة لم يكن غير دغدغة مشاعر المواطنين الذين يواجهون أوضاعا نفسية صعبة في ظل الأوضاع التي تشهدها تونس ليقول هؤلاء في النهاية: الأسلمة هي الحل، وأن من عارضوا إنشاء صندوق الزكاة بذريعة أن ذلك يتعارض مع مدنية الدولة عاجزون عن القيام بما قام به هذا الصندوق ومن ورائه فتحي العيوني والإسلاميون.
وقال المحلل السياسي محمد صالح العبيدي إن “مسألة تمويل المستشفى من صندوق الزكاة تعكس محاولة من الرجل أو ربما من المقربين منه لدفع الناس إلى تبني المطالبة بتعميم التجربة على كامل تراب الجمهورية وهذا يمس مدنية الدولة بلا شك، لكن هؤلاء يتغذون من الفراغ الذي تركته الدولة أولا والأحزاب التقدمية ثانيا”.
وأضاف العبيدي، لـ”العرب”، “هو يدرك أن هناك أوساطا محافظة مستعدة لدعم أفكاره ولو كانت تعرف أن صندوق الزكاة ليس حلا، لذلك يحاول أن يدفع هؤلاء إلى مغادرة مربع الصمت والتردد في إعلان دعمهم لفكرة الصندوق وحتى المطالبة بتعميمها، وهو ما يمثل أسلمة ناعمة تستفيد منها الحركات الإسلامية التي تريد أصلا إحياء السجالات بشأن الهوية”.
وبالرغم من أنها نجحت في تجاوز مراحل عصيبة بسبب المعارك حول قضية الهوية، على غرار ما شهدته من فوضى واغتيالات سياسية وغير ذلك في عهد الترويكا (2011 – 2013)، إلا أن تونس لا تزال تعرف في كل مرة عودة نقاشات صاخبة حول مسألة الدين والهوية.
ودائما يدفع الإسلاميون والمقربون منهم نحو ذلك، حيث يصرّح هؤلاء بمواقف صادمة سواء تجاه المرأة أو تجاه الأقليات ويقومون بتحركات مثيرة للجدل مثل تركيز صندوق الزكاة الذي قام به العيوني وغيره.
والعيوني كان قد أطلق في وقت سابق تصريحات أيضا قال فيها إن “المثليين جنسيا” ممنوعون من الدخول إلى بلدية الكرم، موضحا أن مكانهم الحقيقي هو السجن، وهو ما أثار موجة سخط وقتها لاسيما من قبل جمعيات تدافع عن مدنية الدولة.
اختراق المجتمع المدني
خطوة رئيس بلدية الكرم بشأن مواجهة كوفيد – 19 لا يمكن فصلها عن تحركات أخرى مثيرة تكشف بوضوح اختراق المجتمع المدني ومكوناته في تونس من قبل الإسلاميين بهدف التمدد سياسيا وشعبيا، خاصة في ظل تراجعهم المستمر.
ولوحظ نجاح هؤلاء في اختراق منظمات مدنية وصحية أصبحوا يتحركون تحت ستارها، على غرار الهلال الأحمر الذي يقف في الصفوف الأمامية في حملات التطعيم، حيث يحاول هؤلاء تنظيم التونسيين القادمين لتلقي جرعات ضد فايروس كورونا.
وفي وقت سابق قدم راشد الغنوشي، الذي يتزعم حركة النهضة ويرأس كذلك البرلمان التونسي، العديد من التبرعات للهلال الأحمر ما يعكس مغازلة لهذه المنظمة، وهو ما يفاقم الشكوك إزاء استقلالية تلك المنظمات ويرجح فكرة اختراقها من قبل الإسلاميين.
وشهدت تونس بعد انتفاضة 14 يناير 2011 فوضى واسعة في المجتمع المدني، حيث بلغ عدد الجمعيات الناشطة فيه ما لا يقل عن 23 ألف جمعية، وهو ما فتح الباب أمام تمويل تلك الجمعيات بلا حسيب ولا رقيب ما يسهل عملية التحكم فيها واستغلالها سياسيا.
ويبدو أن الهدف الحقيقي للإسلاميين من اختراق المجتمع المدني هو الاحتكاك بالناس ليدركوا أن هؤلاء الإسلاميين بصدد إسداء خدمات لا تقدر بثمن في وقت تعيش فيه البلاد أياما صعبة بسبب الانتشار السريع للوباء والصعوبات التي تجدها الحكومة أثناء عملية تطويقه.
وفي الواقع اختراق المجتمع المدني ليس وليد اللحظة؛ فالإسلاميون يعملون دائما على ذلك من أجل استغلال مكوناته في توسيع قاعدتهم الشعبية عبر شتى الطرق خاصة خلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان أو الأعياد حيث يقدم هؤلاء مساعدات غذائية وأضاحي وغيرها للمواطنين بهدف كسب ودهم.
واعتبر المحلل السياسي محمد صالح العبيدي أن “الإسلاميين ليس بجديد عنهم اختراق المنظمات وكل الأجهزة، لأسباب أيديولوجية، كما يعمل هؤلاء على التمكين قدر الإمكان سواء في المنظمات أو في أجهزة الدولة أو غيرها، إنهم يحاولون التسلل إلى كل مكان لخدمة مصالحهم”.
وتابع العبيدي، في تصريح لـ”العرب”، أن “محاولات النهضة مثلا لاختراق المنظمات وجمعيات المجتمع المدني لا تتوقف، وحتى عندما تخفق في ذلك فإنها تسعى لخلق أجسام موازية تتكفل بالمهام مثل إنشاء منظمات عمالية موازية تنافس المنظمات الرئيسية التي تعتبرها النهضة وأنصارها تابعة لخصومهم”.
وبالرغم من هذه المحاولات فإن الشكوك تُخامر المتابعين بشأن نجاح النهضة -وغيرها من الحركات الإسلامية في تونس- في استمالة التونسيين خاصة في ظل الفشل الذريع الذي تعرفه البلاد بسبب حكمها طيلة السنوات العشر التي تلت سقوط حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وقال المحلل السياسي إبراهيم الوسلاتي إن “مثل هذه الخطط لم تعد تنطلي على الرأي العام الوطني في تونس الذي لا يثق في وعود النهضة ولا في تصريحات كبار مسؤوليها، ويكفي التذكير بأنّ رئيسها راشد الغنوشي يبقى دائما الشخصية التي لا تحظى إطلاقا بثقة التونسيين من خلال عمليات استطلاع الرأي التي
تضع الحزب الدستوري الحر في الطليعة في ما يتعلّق بنوايا التصويت بفارق كبير عن حركة النهضة، وهو ما يزعج الغنوشي وحركته اللذين يعملان على استبعاد عبير موسي وحزبها بشتى الطرق أو على الأقل التقليص من صعودها”.
ويعرف الإسلاميون تراجعا كبيرا في استطلاعات الرأي التي تُظهر تقدما مستمرا للحزب الدستوري الحر المعارض والرئيس قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية، وهو ما قد يرغم هؤلاء على المزيد من التحرك في الفترة المقبلة لاستعادة شعبيتهم.
ويسوّق هؤلاء دائما لخطاب المظلومية من خلال التنصل من حصيلة الحكم رغم أن حركة النهضة التي تمثلهم كانت ممثلة في أغلب الحكومات التي مسكت بزمام الأمور بعد انتفاضة 14 يناير 2011.