الأيام لعبت بيّا..

المطبخ التونسي والموسيقى التونسية أول ما لفت انتباهي خلال زيارتي الأولى لتونس. الموسيقى هي المزود.. والاثنان، المزود والطعام، يشتركان في الظلم الذي وقع عليهما. الأول، يشتكي ظلم ذوي القربى. والثاني، لم ينل حقه من الشهرة التي يستحقها أسوة بالمطبخ المغربي والمطبخ اللبناني – السوري.
لن أخشى المبالغة إن قلت، وأنا الخبير بأصناف الطعام، أن المطبخ التونسي لا يضاهيه مطبخ متوسطي آخر في التنوع والمذاق. أيضا، لن أكون مبالغا عندما أقول إن موسيقى المزود الشعبية تكاد لحسن نغماتها وإيقاعها أن ترقص الحجر.
التونسيون الذين عرف عنهم امتلاك حس عال في تذوق الموسيقى، بشهادة كبار المطربين العرب والدوليين، وبشهادة مدرجات مسرح قرطاج، ظلموا موسيقاهم وظلموا مطبخهم.
لم أكن أعلم في الأيام الأولى من وصولي إلى تونس أنني أرتكب “خطيئة” لا تغتفر بإبداء الإعجاب بالمزود، لأكتشف فيما بعد أن النخب المثقفة والشرائح المحافظة في المجتمع، وحتى السلطات التونسية، تنظر إلى المزود نظرة دونية.
وأضفت لحماقتي الأولى حماقة أخرى عندما اندفعت دون ترو مبديا إعجابي بالمطرب الشعبي سمير الوصيف.
استرجعت كل هذا وأنا أقرأ خبرا أثلج صدري عن محاولات موسيقيين كبار استرجاع حق المزود المهدور على مدى مئة عام وأكثر.
فجأة، قطع علي سلسلة أفكاري تصريح قفز على شاشة الكمبيوتر لمطور روبوت الدردشة “تشات جي.بي.تي” سام ألتمان. مضمون التصريح أن أدوات الذكاء الاصطناعي المتاحة حاليا بدائية للغاية مقارنة بما سيكون عليه الحال خلال بضع سنوات.
ما قاله ألتمان أنساني موسيقى المزود، وأصناف الطعام، وصوت سمير الأسطوري.
ورحت أدندن بصوت مسموع كلمات أغنية سمير “يا اميمتي الغالية الأيام لعبت بيّا”. ودون أن أدري استبدلت كلمات الأغنية لتصبح: يا اميمتي الغالية سام ألتمان لعب بيّا.
ماذا يخبئ لنا الذكاء الاصطناعي أكثر مما كشف عنه؟
منذ أيام فجر خبر نشر حول فيلم قصير، أنتج باستخدام الذكاء الاصطناعي، جدلا حول مستقبل السينما والسينمائيين. وفي اليوم نفسه أطلق بيان يحذر من استخدام الذكاء الاصطناعي في انتحال شخصيات الموتى. وعرض متحف سويدي منحوتة مستوحاة من أعمال خمسة من أبرز النحاتين بينهم مايكل أنجلو ورودان، جرى ابتكارها بفضل برامج للذكاء الاصطناعي.
لا أدري إن كانت الجهود الأخيرة التي يبذلها موسيقيون تونسيون غيورون على موروثهم سترفع الظلم عن المزود.
ما أنا متأكد منه أن مستقبل الفن بات اليوم بيد عفريت اسمه “الذكاء الاصطناعي”. وهو ما أكده خبر عن أغنية تصدر قريبا لمغني البيتلز الراحل جون لينون باستخدام الذكاء الاصطناعي.
سألني صديق بخبث وهو ينقل لي خبرا يقول أن الذكاء الاصطناعي قدم عظة في كنيسة ببلدة بألمانيا: هل نرى قريبا روبوتا يبيع الخمر خلسة؟
لم أكترث بالسؤال، وأكملت أدندن مع سمير الوصيف: طال غيابي طال، تعبني الترحال، ندمت على هالحال، دمعة سخية..