الأميرال التونسي كمال العكروت لـ"العرب": لا يمكن فصل الأمن القومي عن الاستخبارات

إنشاء وكالة وطنية للاستعلامات الإستراتيجية في تونس سيساعد على التحليل والاستنتاج لمساعدة صناع القرار في اتخاذ ما هو صحيح.
الخميس 2020/10/01
لا بد من نمط تفكير جدي في التعاطي مع التهديدات

كتابة تاريخ أي بلد تكون بأيدي شخصيات وطنية مهما اختلفت مواقعها في الدولة. ولأن العالم يشهد اليوم تغيرات متسارعة من النواحي الاستراتيجية والأمنية والجيوسياسية والاقتصادية إضافة إلى تنامي العنف والإرهاب تحت يافطات مختلفة باسم الدين مست من استقرار الكثير من البلدان، فإن مسألة الأمن القومي بالنسبة إلى تونس تعد أولوية قصوى حاليا، بحسب الأميرال التونسي كمال العكروت، حيث قدّم في حوار مع “العرب” رؤيته الشاملة في هذا المضمار، والتي تستند على ركيزة أساسية وهي بناء جهاز استخبارات قويّ يحقق أهداف الأمن القومي، كيف لا والرجل خبر الكثير من خلال تقلده لمناصب حساسة تجعله يقدم عصارة تجربته الطويلة خدمة لمصلحة بلده.

تونس- أضفى الأميرال التونسي كمال العكروت، الذي شغل منصب مستشار أول مكلف بالأمن القومي لدى الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، بصمته على مشروع إعادة هيكلة مؤسسات الأمن القومي والاستخبارات، حيث كان حتى العام الماضي عضوا في مجلس الأمن القومي، الذي يلتئم بإشراف رئيس الجمهورية.

وعمل الضابط السامي السابق في البحرية وصاحب الخبرة الكبيرة، حيث يتذكّره معظم التونسيين كمساعد مخلص للرئيس، بتكتّم وكفاءة لتقديم رؤية جديدة في التعامل مع القضايا المتعلقة بالأمن القومي.

واليوم يبدو العكروت، الذي يتسلح بخلفيته العسكرية والأكاديمية، على أتم الاستعداد لتسيير معهد الاستشراف والدراسات الإستراتيجية والأمنية المتقدمة، وهو مركز بحوث يتطلّع للعب دور رائد في البلاد، إذ أنه مؤهّل أكثر من غيره لمناقشة جملة من القضايا الحساسة التي نادرا ما يتناولها المسؤولون السابقون والحاليون في الجيش والمخابرات، لاسيما المواضيع المتعلقة بمكانة الأمن القومي والاستخبارات في التحول الديمقراطي في تونس.

ومن خلال حوار أجرته معه “العرب” كشف العكروت، الذي سبق وأن عمل قائدا للأكاديمية البحرية كما شغل منصب مدير عام المخابرات العسكرية وجمع بين التدريب العسكري في الأكاديميات العسكرية الأميركية والألمانية واليونانية والدراسات الجامعية العليا في جامعة الدفاع الأميركية المتخصصة في مجالات الأمن الدولي ومكافحة الإرهاب، عن أبرز الخطوط العريضة التي يتوجب أن تتوخاها تونس لتحقيق الأمن القومي على قواعد صحيحة تتماشى مع ما تعيشه الدولة من تغيرات داخلية وخارجية.

سيرة ذاتية

◄ لقد لعبتم دورا هاما في عملية إنشاء مجلس الأمن القومي وهيكلة مصالح الاستعلامات، ماذا تولّد عن هذا المجهود وما هي الهياكل التي تم اعتمادها في نهاية المطاف؟

بعد الانتخابات الرئاسية في 2014 وبعد تعييني مستشارا أول لدى المرحوم الرئيس الباجي قايد السبسي دعيت لإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي وتوّج هذا العمل بإصدار مرسومين وهما، المرسوم الحكومي عدد 2017 – 70 بتاريخ 19 يناير 2017، المتعلّق بإنشاء مجلس الأمن القومي من خلال إعداد هندسة متكاملة لذلك.

أما المرسوم الحكومي فجاء تحت عدد 2017 – 71 وبنفس التاريخ، وهو يتعلق بإنشاء المركز الوطني للاستعلامات. وهذا المركز وإن كان تحت إشراف رئيس الحكومة فإنه يعمل لفائدة مجلس الأمن القومي وكذلك رئاسة الحكومة، ويعيّن رئيسه رئيس الجمهورية وهو عضو في مجلس الأمن القومي، ولكن مع الأسف، فإن هذا المركز لم يتم تفعيله حتى اليوم.

◄ لماذا لم ير المركز الوطني للاستعلامات النور حتى اليوم؟

لم يتم تفعيل هذا المركز لغياب الإرادة السياسية وكان تفعيله سيكون مفيدا جدا سواء بالنسبة للقطاع أو بالنسبة لمجلس الأمن القومي وفي بعض الحالات يؤدي تسييس الأمور إلى نتائج بعكس المرغوب فيها ولا يسمح بتحقيق الأهداف المنشودة نتيجة الحسابات السياسية. نعتبر أن الاستخبارات وسيلة مفيدة جدا ولكن كل أصحاب القرار لا يألون جهدا لجعلها في متناولهم بالنظر إلى النظام السياسي الموجود.

◄ بمقتضى النصوص القانونية، ما هي مهام ومشمولات مجلس الأمن القومي والمركز الوطني للاستعلامات، وما هي العلاقة بينهما؟

كان هناك في الماضي، مثلما هو الشأن في كل مكان، تقسيم ونوع من التنافس بين مصالح الاستخبارات وفي تونس تتوزّع مصالح هذا الجهاز بين وزارتي الدفاع والداخلية. وحتى في وزارة الداخلية نجد الحرس الوطني من جهة والشرطة من جهة أخرى. ولهذا فقد فكّرنا في إنشاء وكالة (مركز) وطنية للاستعلامات الإستراتيجية لأن الأهم في الواقع ليس جمع المعلومات وإنما التحاليل والاستنتاجات من أجل استخلاص الملامح الأهم، ومساعدة صناع القرار على اتخاذ القرار الصحيح.

أما المركز الوطني للاستعلامات فيتولى مهمة التنسيق بين مختلف أجهزة الاستخبارات المحلية كونه مكلّفا بجمع التحاليل والتقارير من مختلف المصالح ذات العلاقة وإنشاء آليات لتبادل المعلومات بين هذه المصالح، مما يزيل الجدران التي تفصل بينها ويعزّز التعاون بين بعضها البعض وكذلك إعداد الخيارات الإستراتيجية والأولويات في هذا المجال ثم تقديمها لمجلس الأمن القومي من أجل اتخاذ القرارات.

◄ ما هي العلاقة بين الأمن القومي والاستعلامات؟

لا يمكن فصل الأمن القومي عن الاستخبارات من أجل فهم التحديات المعاصرة الكبرى سواء أكانت عسكرية أو جيوسياسية أو إستراتيجية أو اقتصادية أو تكنولوجية، لأن مجلس الأمن القومي يحتاج لمصالح استخباراتية توفّر له الرؤية وتمهّد السبيل للقرار الصحيح وتمكّنه من الاستباق وتوفّر له في هذا الصدد وسيلة لتقييم واستشراف وإعداد القرار والتحرّك ولذلك لا يمكن أن نتحدّث عن أمن قومي دون استخبارات. وصن تزو، وهو جنرال صيني عاش في القرن السادس قبل الميلاد يقول إن “الاستشراف لا يأتي من الذهن ولا من الآلهة، وإنما يأتي من المعلومات التي نحصل عليها من أولئك الذين في وضع المنافس”.

◄ كيف كان تجسيم مفهوم الأمن القومي خلال فترة حكم المرحوم الباجي قايد السبسي؟

لا يمكن فصل الأمن القومي عن الاستخبارات من أجل فهم التحديات المعاصرة الكبرى
لا يمكن فصل الأمن القومي عن الاستخبارات من أجل فهم التحديات المعاصرة الكبرى

مفهوم الأمن القومي في تونس عرف تطوّرا مشهودا خلال فترة حكم الباجي قايد السبسي وما يسّر هذا التطور هو الفصل 77 من دستور 2014، فقد شهدنا إنشاء مجلس الأمن القومي والأمانة القارّة لمجلس الأمن القومي و15 لجنة قارة متفرّعة عن هذا المجلس إضافة إلى المركز الوطني للاستعلامات.

وتركيبة المجلس الأعلى كما ذكرها مرسوم سنة 1990 تتضمّن المديرين العامين وأعضاء المجلس الأعلى للجيش وقد كان البعد الأساسيّ سياسيّا وإستراتيجيّا وعملياتيا، أما في التركيبة الجديدة فإن البعد أضحى سياسيّا وإستراتيجيّا وسبب هذا الاختيار هو أنه خلال اجتماعاتنا الأولى بين عامي 2015 و2016 لم يعط حضور الوزراء ومنظوريهم نجاعة لعملنا، وبعد 2017، كان تبادل الرأي مثمرا بشكل أكبر وهذا لم يمنع من أنّ المجلس دعا أحيانا بعض الأمنيين أو العسكريين للحضور لمناقشة مسائل محدّدة.

ومع رئيس الجمهورية قايد السبسي اخترنا أن تكون هناك مراسيم حكومية (70 – 71) عوض اللجوء إلى قوانين اعتبارا لطول المدة الضرورية لإنجاز مثل هذه القوانين والدليل على ذلك أن مشاريع القوانين حول الاستعلامات وحول الجرائم السيبرانية وحول حالة الطوارئ مازالت طور الانتظار.

◄ بعض الأصوات في تونس والخارج حذّرت من أن يؤدي مجهود مقاومة الإرهاب إلى إعادة تشكيل نظام سياسي سلطوي يهدّد الحريات وحقوق الإنسان، هل هذا الخطر موجود؟

خطر الانزلاق خلال مجهود مكافحة الإرهاب وحفظ النظام هو احتمال ممكن الحصول دائما، خاصة إذا كانت التشريعات والقوانين في هذا المجال غير دقيقة وتفسح المجال للكثير من التأويلات، مثلما كان الحال مع قانون 2003 الذي مكّن من ملاحقة المعارضين السياسيين. وإني أتذكّر خلال الاجتماع الأول لمجلس الأمن القومي في 12 فيفري 2015 أن أحد القرارات التي تم اتخاذها كان تفعيل المصادقة على قانون  مقاومة الإرهاب والتأكيد على احترام حقوق الإنسان خلال تطبيق هذا القانون.

أنا هنا أتحدث عن قانون 26 لسنة 2015، الذي تمت المصادقة عليه بعد ذلك بأشهر قليلة، وهذا القانون ممتاز مقارنة مع قانون 2003 لأنه ضمن حقوق المتهمين في نفس الوقت الذي وفّر فيه الحماية للقوات العاملة في مجال مقاومة الإرهاب.

من ناحية أخرى، لا أفهم المنطق الذي يبرّر مواصلة العمل بالأمر الرئاسي عدد 50 لسنة 1978 المنظم لحالة الطوارئ والذي تجاوزه الزمن، حيث أن لدينا مشروع قانون عدد 91 ينتظر في رفوف مجلس نواب الشعب منذ 2018، وآخر ملاحظة في ما يخص ميدان مقاومة الإرهاب أنه لا يجب أن يكون هناك أي تسامح مع الإرهابيين ومع الذين يمجدونهم ويساندونهم أو يجدون المبررات لأعمالهم.

◄ ما هي التحديات الكبرى التي تواجه تونس على صعيد الأمن القومي؟

التحديات الكبرى التي تواجه تونس على صعيد الأمن القومي متعددة وتتضمن المشكلات الداخلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والإرهاب، والوضع في ليبيا، وعمليات التهريب الحدودية خاصة تهريب الأسلحة والمخدرات، والهجرة غير الشرعية خاصة من جنوب الصحراء، والتدخلات الخارجية.

◄ في كل بلدان العالم نشاط الاستعلامات محميّ في معظم الحالات بالسرية، ولكن خبراء مصالح الاستعلامات في الغرب سواء كانوا في الخدمة الفعلية أو في التقاعد يحافظون على علاقاتهم مع المؤسسات العامة وخاصة مراكز البحوث ووسائل الإعلام، في بلادنا هل بدأنا نتخلص من التأويلات القديمة المتعلقة بجدوى مثل هذا النشاط بالنسبة لمصالح البلاد؟ وهل بدأت هذه المصالح تتطور نحو قدر من الشفافية والانفتاح؟

منذ العصور القديمة كانت الاستخبارات وسيلة ضرورية للانتصار في الحروب وهي وسيلة ضرورية لتنمية البلاد وتحقيق أهدافها في العالم حيث تواجه تونس مجموعة من التحدّيات والتهديدات المتزايدة من الإرهاب إلى التحديات الاقتصادية. وفعلا فإن من يملك المعلومة يملك السلطة لأن المعلومة بلا شك وسيلة للسيطرة ورهان أساسيّ يسعى إليه الجميع من أجل السيطرة على منافسيهم.

وقبل عام 2011، بقيت رؤية الاستعلامات على أنها ميدان “محرّم” لا يستطيع أحد أن يتحدّث عنه مثلما هو الحال في بقية دول العالم العربي، أي أنه ميدان يزعج ويخيف ويذكّر بالخروقات والممارسات غير الطبيعية وأحيانا بذكريات سيّئة لبعض الناس، ولكن بعد ذلك التاريخ تغيّر الوضع وكانت هناك محاولات انفتاح سواء من مصالح الاستخبارات ذاتها أو تحت ضغط المجتمع المدني وطالب أصحاب هذه المحاولات بمزيد من الشفافية والمزيد من المراقبة خاصة المراقبة البرلمانية.

أنا شخصيا مع الانفتاح، ولكني لست مع الشفافية المطلقة لأن مصالح الجهاز الاستخباراتي لا يمكنها أبدا العمل بنجاعة في نطاق الشفافية الكاملة وخلال فترة عمل الرئيس السابق المرحوم الباجي قايد السبسي تم تقديم مشروع يتعلق بالاستخبارات إلى رئيس الحكومة في نطاق الإجراءات اللازمة قبل عرضه على مجلس النواب، ولكنه بقي طور الانتظار. وهذا المشروع يرمي أساسا إلى تقنين عمل هذه المصالح من أجل حماية الموظف العامل بالاستعلامات وكذلك المواطن وأن يضع هذه المصالح تحت الرقابة البرلمانية.

مفهوم الأمن القومي في تونس عرف تطورا مشهودا خلال فترة حكم الباجي قايد السبسي وما يسّر هذا التطور هو الفصل 77 من دستور 2014، فقد شهد إنشاء مجلس الأمن القومي والأمانة القارّة لمجلس الأمن القومي و15 لجنة قارة متفرّعة عن هذا المجلس إضافة إلى المركز الوطني للاستعلامات

◄ هل يمكن أن نأمل في يوم من الأيام أن يرتبط خبراء مؤسسات الأمن القومي والاستعلامات في إطار علاقات منظمة مبنية على الثقة والمنفعة المتبادلة مع خبراء في مراكز البحوث وبشكل يساعد على ظهور صحافيين متخصصين في مسائل الأمن القومي؟

في البلدان الديمقراطية مراكز البحوث هي مصدر مفتوح وهام للتحاليل والدراسات وفي كثير من الأحيان هناك تعاون مباشر بين مصالح الاستعلامات ومنابر التفكير هذه ومنذ سنة 2011 في تونس هناك درجة أكبر من الحرية في هذا المجال وهناك مراكز بحوث متخصّصة في الدراسات الأمنية ومسائل الدفاع والمصادر المفتوحة للاستخبارات (أوبن سورس). وأعتقد أننا سوف نشهد قريبا ظهور طائفة من الصحافيين المختصين وصحافة في هذا المجال مثلما هو الشأن في كل البلدان الديمقراطية.

7