الأمن البشري صار مقابل الأمن القومي والتعددية الثقافية

يبرز الأمن القومي كمجموعة من آليات الدفاع تهدف إلى حماية الدولة بوصفها كيانًا ذا سيادة. ويشمل ذلك الحماية من الهجمات والتهديدات التي تنشأ من خارج حدودها الوطنية، ولكنها تنطوي أيضًا على الحماية من أيّ أعمال قد تهدد نظام الدولة من الداخل. ويزداد اهتمام المملكة العربية السعودية بدول البلقان عموما وألبانيا خصوصا، على خلفية تحول مناطق فيها إلى حديقة خلفية للنفوذ التركي.
الرياض - تأتي الهجمات التي تتهدد الأمن القومي للدولة بمعظمها في شكل عسكري، وبالتالي فإن القوة العسكرية الدائمة ضرورية لمواجهة هذا النوع من التهديدات.
وعلى الرغم من أهمية الأمن القومي، لكن في عالم تندر فيه الحروب بين الدول، أصبح مفهوم الأمن البشري مهمًا أيضًا. و”على النقيض من المفاهيم التقليدية للأمن التي تركز على الدفاع عن الحدود من التهديدات العسكرية الخارجية، فإنَّ الأمن البشري يهتم بأمن الأفراد”. على حد وصف الرئيس الألباني الأسبق رجب ميداني، الذي استضافه مركز البحوث والتواصل المعرفي في المملكة العربية السعودية، ضمن اهتمام سعودي متزايد بمنطقة البلقان والبانيا على وجه الخصوص، وقدّم محاضرة بعنوان “الأمن البشري مقابل الأمن القومي” في إطار ندوة “قضايا الأمن والتعايش.. البلقان نموذجًا”.
شارك في الندوة رئيس الجامعة الكندية للتكنولوجيا سوكول آبازي بورقة اختار لها عنوان “المياه ووضع الشعوب في المرحلة القادمة”، بينما كان عنوان محاضرة مدير معهد التربية والتراث والسياحة رامز زكاي “التعدد الديني والثقافي في بلاد البلقان ودوره في الأمن الوطني لدول أوروبا الشرقية”.
ويركّز ميداني على مفهوم تحدي الموازنة بين أمن الدولة وأمن الإنسان، مضيفاً قوله “منذ نهاية الحرب الباردة، نشبت النزاعات المسلحة داخل الدول أكثر منها فيما بينها، ويمكن الإجابة عن ذلك من خلال ثلاثة أسئلة يطرحها الميداني؛ ماذا يفعل التحديث العسكري باهظ الثمن بالنسبة إلى الأمن البشري المواطن؟ وما التكلفة التي يجب أن يتحملها المواطن، من ناحية السلامة الشخصية والنفقات، لتنفيذ الأمن الخارجي؟ وأخيراً أليس الأمن البشري للمواطن الفرد أكبر عندما يكون التركيز في الأمن الداخلي، وليس الأمن الخارجي؟”.
البنية التحتية للمجتمع
يرى ميداني أن الدين الإسلامي يولي اهتمامًا كبيرًا للأمن البشري، فلا يمكن، على حد قوله، تحقيق النمو والازدهار في المجالات المادية والروحية من دون الأمن البشري.
ويعدُّ الإسلام الأمن محصّنا من أي تهديد؛ لأنه وفقًا للنصوص الدينية، وبخاصة الآيات القرآنية، يُستنتج أن الأمن من أعظم نعم الله، ويتقدم على الحاجات البشرية الأخرى من ناحية البعد الإنساني.
ومن وجهة النظر الإسلامية، الأمن البشري هو البنية التحتية لحياة الفرد والمجتمع وشرط مسبق لأي تنمية، لاسيما في مكافحة الفقر، ودعم حقوق الملكية للناس، وإقامة العدل وتجنب التمييز.
أما الأمن السيبراني، والحدود الأخلاقية التي يبنغي أن تحكم الإعلام الرقمي، وطرائق مكافحة جرائم المعلومات، فينوّه الميداني بأنها محكومة بالثنائية بين الحرية والأمن، والاستقلالية والتبعية، وكيف يمكن المزاوجة بينها.
ويسلّط آبازي الضوء، من جانبه، على قضية المياه في البلقان، مشيراً إلى التعاون المائي بشأن نهر الدانوب، وأنه ظلًّ أساسًا لتعزيز العلاقات بين الدول في أعقاب الحرب التي دارت رحاها في تسعينات القرن الماضي.
يذكر أن دول البلقان كنت قد أجرت مفاوضات لإبرام اتفاقية لإنشاء منظمة تُعنى بإدارة حوض نهر الدانوب، جمعت هذه الدول، ثم امتد التعاون إلى التجارة والقضايا الخاصة بإزالة مخلفات الحرب وغيرها.
ويشدّد آبازي على ضرورة استمرار التعاون بما يحول دون حدوث خلافات تلقي بظلالها على أوضاع المنطقة، وتنذر بعدم استقرارها، ونشوب نزاعات تؤثر سلبًا في الأمن الإقليمي والدولي.
وفي ما يتعلق بالتعددية الدينية والثقافية في البلقان، يشير زكاي إلى أن الحديث عنها يتطلّب تحليلاً للتطورات التاريخية والاجتماعية السابقة للشعوب والثقافات في قارة أوربا، ويضيف قوله “إنَّ المشهد الديني في أوروبا محور المناقشات حول دور الدين في المجتمع المعاصر. ويتعلّق أحد الأسباب بحقيقة أن التطورات الأوروبية، بما في ذلك التطورات الدينية، كان لها تاريخياً تأثير قوي في بقية العالم. ويصبح هذا التأثير أكثر وضوحًا اليوم في العصر الحديث، عندما اتخذت العمليات المعرفية بين الثقافات أبعادًا جديدة، وتطورت بسرعة كبيرة للوصول إلى كل ركن من أركان العالم في بضع دقائق”.
التواصل وتبادل الخبرات
بدأت عملية التواصل بين المعتقدات والثقافات داخل القارة الأوروبية في وقت مبكر جدًا، وهذا يتضح من الكتب والمصادر التاريخية اليهودية والمسيحية والإسلامية، لكنها اتخذت أبعادًا جديدة في القرن العشرين، حيث تم تصدير النموذج الغربي للحياة تدريجيّاً إلى دول البلقان، وقد كانت تحت الحكم العثماني لعدة قرون، ومن ثم تحت حكم الشيوعي، بما في ذلك نموذج الدولة القومية، وهيكل الاقتصاد الرأسمالي، والعلوم والتكنولوجيا، وفقاً لزكاي.
وهكذا أصبحت الثقافة الغربية عنصرًا مؤثرًا في التحولات اللاحقة التي ستجد بصماتها ليس فقط في دول البلقان، بل في مجتمعات كثيرة غير الأوروبية في العالم.
أخيراً يخلص زكاي إلى أن الثقافة والدين ليسا ملكًا لتجمع قومي أو قاري، ولكن أيضًا ما يحدث في منطقة البلقان يمكن أن يكون له تأثير مباشر وفوري في أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا، وفي أي مكان في العالم.
إضافة إلى أن التواصل وتبادل الخبرات الثقافية بين الشعوب والحوار والاحترام والتسامح فيما بينها هو أفضل ضمان للأمن القومي المستدام للجميع.