الأفلام الغرائبية تقدم فهما خاصا للزمن وتعيد إنتاجه ماضيا ومستقبلا

الغرائبية في السينما كانت ولا تزال ميدانا واسعا لتجارب المخرجين. هي خروج لافت عن النسق الواقعي ومحاولة جلب المشاهد إلى أشد المناطق غموضا واختلافا عما هو مألوف، فضلا عن إيجاد مقاربات تتعلق بالمكان والزمان والشخصيات تحمل في ثناياها قدرا من الإيهام الممتع الذي يجعلنا أكثر تفاعلا مع الشخصيات المعروضة وأكثر اقترابا منها.
إن عنصر النجاح في مثل هذه الدراما يكمن في القدرة على إقناع المشاهد بأن ما يشاهده جدير بالمشاهدة وفيه ما يكفي من العناصر والمكونات التي تجعله فيلما متميزا، وأن تلك المعالجة الغرائبية تنطوي على جماليات غزيرة تجعل منها نوعا تعبيريا مؤثرا.
تكامل أسلوب السينمائيين هو الذي يؤهلهم للارتقاء إلى تلك المرحلة المتقدمة في إنتاج واقع آخر مواز للواقع الحقيقي، وتلك هي الميزة الأساسية. وفي هذا الإطار تراكمت تجارب سينمائية عالمية على أيدي العديد من المخرجين منهم فديريكو فليني وجون كازافيتس وهيتشكوم وتيرنس ماليك ومارتين سكورسيزي وديفيد لين وسبايك لي وروبرت زيمكس وجورج لوكاس وسام مينديس وكريستوفر نولان وغيرهم.

تكامل أسلوب السينمائيين هو الذي يؤهلهم للارتقاء إلى تلك المرحلة المتقدمة في إنتاج واقع آخر مواز للواقع الحقيقي
في هذا النوع الفيلمي هنالك فهم خاص للزمن وإعادة إنتاجه ماضيا ومستقبلا، فالمستقبل وصورة الغد التي نجهلها ربما سوف تؤول إلى نوع من الصراعات التي لم نكن لنتخيلها، إذ ليس الغد والمستقبل مجرد حالة من التطور العلمي والتكنولوجي الخارق الذي سوف يحيل البشرية إلى الفضاء الرقمي وإلى سيطرة الذكاء الاصطناعي، كل ذلك ممكن وأكثر، ولكن السؤال هو أين موقع الإنسان في وسط كل ذلك؟
ربما يكون المخرج ميكائيل هالفستروم هو أكثر تعبيرا عن صورة متضاربة ومتناقضة محورها أزمة الإنسان، وخاصة في فيلمه “خارج السلك” في ذلك العالم الذي سوف يسود فيه الذكاء الاصطناعي ولكنه ليس كله مشرقا كما يمكن أن نظن بل إنه عالم ديستوبي على فرضية أن جزءا من هذا العالم قد انخرط في صراعات وحرب أهلية لا تعرف نتائجها ولا نهاياتها.
على أن العالم الصاخب من حولنا ومن حول الشخصية الرئيسية في الفيلم من الممكن أن يختفي وتختفي معه حياة الناس ولا تبقى إلا أنت.
هو زمن العزلة والوحدة بامتياز وهو ما يذكرنا به ناقد سينمائي بأنه فيلم عن العزلة والوحدة وأنه يتماهى مع أجواء الحظر والعزلة التي تعيشها البشرية في زمن كوفيد – 19 الاستثنائي.
في فيلم “إذهب أو لا تذهب” سوف يحضر هنا آدم (الممثل أليكس كناب) وهو نفسه المخرج والكاتب والمنتج وهو الذي يتحمل أعباء تلك الوحدة والعزلة بجميع أبعادها، وبما في ذلك الاختفاء المفاجئ للبشر.
يقدم الفيلم يوميات آدم، الشخص الوحيد المتبقي في ذلك المكان في عالم الديستوبيا القاحل في وسط بقايا حياة وضواحي مهجورة من ساكنيها، فيما هو يجول فيها باحثا عن الناس والذكريات.
من هنا سوف تتدفق تلك السردية الفردانية التي تلاحق يوميات إنسان في زمن الغياب الكامل للبشر وليس مهما -من وجهة نظر المخرج- أي سبب سوف يكمن وراء اختفاء الناس، فأسباب المحو متوافرة وهي متعددة، ولن ينشغل المخرج في الخوض فيها تاركا للمشاهد افتراض الأسباب.
الغرائبية هنا هي أكثر ارتباطا بالفرد الأعزل والمكان، هي الثنائية التي اشتغل عليها هذا الفيلم في معالجته السينمائية وتعمق فيها، الفرد في بيئات متعددة فتارة هو يعلم تفاصيل المكان من قبل وتارة أخرى يجهله ويكتشفه وما بين الحالتين هنالك صلة ما مع المكان، صلة اغترابية كاملة قائمة على مفهوم الاغتراب، لكنها في المقابل لم تدفع آدم إلى فقدان بوصلة وجوده ولا إلى اكتفائه بالانزواء في قوقعة.
في المقابل هنالك دافع التخلص من قيد الماضي والسعي إلى العودة إليه من جهة أخرى إلى غاية واحدة هي تغيير المصير أو القضاء والقدر، وهو ما شاهدناه في عدد من أفلام الخيال العلمي، وبذلك اقترن التحدي بعنصر الخيال وتعمقت الغرائبية الفذة التي نبحث عنها لإقناعنا بجدواها وجمالياتها.
لكن قصة الرحيل عبر الزمن بوصفها هدفا وغاية بشرية وحتى خيالية سوف تختلف كليّا عندما تكون أمرا واقعا أو أنه سوف يقع بالمصادفة، وذلك ما عشناه مع أحداث الفيلم للمخرجين جاستن بينسون وآرون مورهيد.
هذا فيلم المتزامن للمخرج جاستن بينسون الذي يحتمل كثيرا من عدم التوقع والغرابة والمفاجأة يخرج عن سياق الأفلام المعتادة عن الرحيل عبر الزمن إلى قضية أخرى هامشية وجانبية، تبدأ عندما يكتشف إثنان من المسعفين وقوع حوادث عنيفة بالتزامن مع استخدام نوع من الحبوب التي لم يكن أحد يعلم عنها شيئا.
فكرة اللا متوقّع والغرائبي تبقى هي السائدة في الفيلم، وتُبنى عليها مسارات الدراما الفيلمية وكذلك إيجاد مسارات سردية موازية وهي عناصر حفلت بها هذه الأفلام التي شكلت لنفسها حيزا وموقعا مهما في وسط الأنواع الأخرى، فهي لم تشرف في الخروج على المألوف باتجاه الافتعال وفي نفس الوقت لم تبق أسيرة كليشيهات واقعية متكررة وهي ميزة إضافية تحسب لهذا النوع الغرائبي من الأفلام.