الأزمة القبرصية محور الاهتمام العالمي القادم

نيقوسيا - يعتزم وزير الخارجية الأميركي جون كيري القيام بجولة أوروبية، الأسبوع القادم، ستشمل ست دول، فرنسا وبلجيكا وكوسوفو وصربيا و واليونان وقبرص، التي ستكون أبرز محطّاته وستحوز على المتابعة الأكبر.
ويركّز الخبراء على زيارة كيري إلى قبرص لعدّة أسباب من بينها أن الولايات المتحدة لم تسجّل في السابق اهتماما ملحوظا بإنهاء انقسام الجزيرة المستمر منذ 40 عاما، مثلما هو الحال خلال السنتين الأخيرتين. ولم تحصل أي مشاركة أميركية على مستوى رفيع لإنهاء تقسيم الجزيرة منذ رفض القبارصة اليونانيون خطة للأمم المتحدة من أجل إعادة توحيد الجزيرة في استفتاء أجري عام 2004.
وباتت جزيرة قبرص أقرب من أي وقت مضى لإنهاء الانقسام بين شطريها التركي في الشمال واليوناني في الجنوب، بعد التقدم الذي تحقق في المفاوضات الجارية بين كل من الرئيس نيكوس أناستاسيادس، وزعيم القبارصة الأتراك مصطفى أكينجي.
وما يؤكّد الدور الأميركي المنتظر في الأزمة القبرصية، التقارير الإعلامية التي تكثّفت في المدة الأخيرة متحدّثة عن حل قريب للانقسام القبرصي، ويدعم هذه التقارير تصريحات للأمم المتحدة، التي أكّد مبعوثها الخاص إلى قبرص اسبن بارث ايديان، أول أمس الأربعاء، أن قيادتي شطري قبرص تحرزان تقدما في مفاوضات السلام التي تشرف عليها الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة المقسمة منذ فترة طويلة “في المستقبل القريب”.
ومع اقتراب المفاوضات من مرحلة حاسمة، سيبدأ لاعبون دوليون كبار بالتوافد إلى الجزيرة لتشجيع المسؤولين على اتخاذ قرارات كفيلة بتغيير المعطيات، فإلى جانب زيارة جون كيري من المقرر أن يزور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الشهر المقبل الجزيرة.
وبدأت واشنطن في مراجعة علاقتها بقبرص السنة الماضية من خلال زيارة قام بها نائب الرئيس جو بايدن، وهي الأولى من نوعها منذ سنة 1962. وقد كانت زيارة بايدن مؤشر على تحسّن العلاقة بين الولايات المتحدة وقبرص، التي تعهّد رئيسها أناستاسيادس، منذ توليه الرئاسة العام الماضي، بإقامة “شراكة إستراتيجية” مع واشنطن.
تركيا لديها ما يزيد على 43 ألف جندي في الجزء الشمالي وإذا تم الاتفاق فإن هذه القوات سوف تنسحب من الأراضي القبرصية
وهذه العلاقة يقول خبراء إنها لن تعجب روسيا، أهم حليف لقبرص الجنوبية، العضو في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق يشير المراقبون إلى أنه لا يمكن قراءة التقارب الأميركي القبرصي بعيدا عن السياقات الإقليمية الراهنة، وخصوصا ملفات النزاع في أوكرانيا واكتشافات الغاز في الساحل القبرصي والدورين الروسي والتركي في الملف السوري.
الوحدة عبر الاستفتاء
من المتوقع أن يتم إجراء استفتاء، تقول تقارير إنه ستشرف عليه الأمم المتحدة في شهر مارس المقبل، وينظم العديد من المسائل الشائكة لقبرص الموحدة، وبعدها تبدأ المفاوضات بين مسؤولي الشطرين للاتفاق على شكل الاتحاد الفيدرالي، الذي من المنتظر أن يبقي على الحكم الذاتي في كل شطر تحت مظلة حكومة مركزية.
وتابعت “العرب” مظاهر هذه التغييرات المرتقبة ورصدت ملامح التطورات السياسية من داخل القصر الرئاسي لجمهورية قبرص، التي يقارب تعداد سكانها المليون نسمة، حيث التقت المتحدث الرسمي باسم الحكومة، نيكوس خريستودوليدس، المستشار الدبلوماسي للرئيس نيكوس أنستاسيادس، الذي تحدث عن جملة من القضايا السياسية.
وسبق أن اقتربت الجزيرة المتوسطية التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004 من الوحدة في بداية الألفية، بموجب خطة سلام وافق عليها القبارصة الأتراك، لكن القبارصة اليونانيين صوتوا بـ “لا” في استفتاء أجري عليها. وأحيا انتخاب أكينجي زعيما للشطر الشمالي الآمال مجددا في توحيد الجزيرة.
ولفت خريستودوليدس، خلال لقائه مع “العرب”، إلى أن التوصل إلى حل سياسي وإعادة الوحدة، يعني انطلاقة للاقتصاد القبرصي، خاصة بعد رحيل القوات التركية من الشمال. وانتقد بشدة نظام الضمانات، الذي عفى عليه الزمن، بحسب وصفه، وأن هذه الضمانات، لن تضفي الشرعية على أي عمل عسكري يقوم به أي طرف.
وقال إن إعادة الاتحاد يعني خفض الإنفاق العسكري وتوفير الملايين التي يمكن استخدامها في دعم الخدمات الصحية الوطنية والمؤسسات التعليمية أو في إعادة تطوير مدينة فاماجوستا “أروشا” التي ستكون كافية لإنعاش الاقتصاد القبرصي.
ومن المقرر، أن يجري أناستاسيادس جولة جديدة من المفاوضات مع أكينجي، والتي انطلقت في 15 مايو الماضي، برعاية الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن تتركز حول مسألة الممتلكات بين الشطرين.
سبق أن اقتربت الجزيرة المتوسطية من الوحدة في بداية الألفية، بموجب خطة سلام وافق عليها القبارصة الأتراك
وأكد لـ “العرب” أن تركيا جزء في المفاوضات وتستطيع المساهمة في توفير الأجواء المناسبة لحل المشكلة القبرصية وتكثيف الجهود والخطوات الجادة بين الجانبين لإنهاء الانقسام.
وقال إذا اتفق الزعيمان، في نهاية المفاوضات، على قرار الاستفتاء وأقر الشعب القبرصي في الشطر الشمالي وفي قبرص إعادة الوحدة، سوف تكون هناك خطة ممكنة في هذا الصدد. وشدد المتحدث باسم الحكومة القبرصية على أنه لا يوجد حتى الآن جدول زمني لانتهاء المفاوضات، لأن المهم حاليا التوافق حول النقاط الخلافية، حتى يتم الاستفتاء بشكل واضح.
وأضاف أن تركيا لديها ما يزيد على 43 ألف جندي في الجزء الشمالي من قبرص، وإذا تم الاتفاق على سياق للحل، فإن هذه القوات وغيرها سوف تنسحب من الأراضي القبرصية. وأشار إلى أن الشعب القبرصي لن يقبل أن تكون تركيا ضامنا لحل القضية من جديد، ولا أي دولة أخرى، ويكفي أن تكون قبرص الضامن في إطار الاتحاد الأوروبي.
وشرح أن أقل مكاسب الوحدة أن يكون من حق كل القبارصة التنقل بشكل طبيعي على كامل أراضي الدولة، وأن يتمتعوا بأراضيهم ويمارسوا عملهم بكل حرية.
وعما إذا كان الجانب التركي سيلتزم بنتائج الاستفتاء المقترح، قال المستشار الدبلوماسي، إنه تمت مناقشة هذه النقطة، وسيتم تضمين الأمر في وثيقة التسوية لضمان إلزام الجانب التركي بها.
وعن ارتباط التقدم في مفاوضات الوحدة بالتقارب بين اليونان وتركيا الذي انعكس في زيارة رئيس الوزراء اليوناني تسيبراس إلى أنقرة ولقائه بنظيره التركي أحمد داوود أوغلو، قال إن الرئيس القبرصي التقى مع تسيبراس في مالطا مؤخرا، وطلب منه نقل عدد من الرسائل إلى الجانب التركي تتعلق بالمشكلة القبرصية.
طموحات اقتصادية وأبعاد سياسية
يرجح المراقبون أن تكون لعودة الحديث عن الوحدة، دوافع سياسية واقتصادية، داخلية وخارجية، وعلى أكثر من صعيد لا سيما في ما يتعلق بعالم المال والأعمال؛ وهو ما أكده فيدياس بيليدس، رئيس غرفة الصناعة والتجارة القبرصية، في تصريحات لـ “العرب”، قال فيها إن توحيد شطري الجزيرة القبرصية سيدفع نحو تعزيز المكاسب من خلال الاقتصاد الموحد للبلاد، وهو ما ينعكس على مختلف القطاعات.
تجد قبرص اليوم فرصة مناسبة للعب دور كبير، خاصة في ظلّ الحشد الفرنسي والأميركي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية
وهذا التطور الاقتصادي سينعكس، ضمنيا على علاقة قبرص بتركيا، حيث من المنتظر أن يحدث تسارع في مشروعات إعادة البناء ومشروعات البنية التحتية في الشطر التركي، خاصة بعد عودة مدينة أروشا “فاماجوستا”، وهو ما يعني أن الكثيرين سوف يعودون إليها، بعد أن أصبحت مدينة للأشباح وهو ما يعني عودة النشاط السياحي إليها من جديد، والذي يحتاج بدوره إلى إعادة تأهيل فنادقها أو فتحها من جديد.
وشدد المتحدث على أن الغرفة التجارية ترى في عودة الوحدة مكسبا للاقتصاد القبرصي، إذ ستقود قطاع العقارات إلى الانتعاش، وسيكون هناك ارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 20 مليار يورو زيادة عن المعدل الحالي. وتابع بيليدس أن الفوائد الواضحة تعيد الانتعاش لقطاع العقارات، نظرا للحاجة لبناء المزيد من المساكن والاستثمار في مشروعات الطاقة المتجددة.
وتوقع المسؤول القبرصي أن تكون بلاده مركزا دوليا للأعمال وللشركات التي تبحث عن مراكز لها في الشرق الأوسط، لاسيما عقب الاستقرار المتوقع أن تشهده في وقت تعيش فيه العديد من دول المنطقة حالة من عدم الاستقرار، نتيجة الظروف السياسية المرتبكة. ولفت رئيس غرفة التجارة والصناعة إلى أن قبرص يمكن أن تلعب دور الوسيط في هذه الاستثمارات، خاصة في مجال المنشآت السياحية، وكمركز جذب لسياحة اليخوت عقب الاستفادة من جميع شواطئ قبرص.
ويرى مراقبون أن هذه الطموحات الاقتصادية، التي عبر عنها المسؤول القبرصي، تحيل إلى رغبة قبرص في أن تستثمر في التغييرات التي تجري في المنطقة المتوسطية عموما، بشقيها الأوروبي والشرق أوسطي، وأن تستعيد جزءا من شهرتها السابقة حين كانت ملجأ للشركات الدولية التي تهرب من دفع الضرائب في بلادها، وأيضا مكانتها عند الدول العربية، وهي التي وصفت بلبنان الثاني في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وكانت مقر الإعلام العربي الذي هرب من تلك الحرب، مثلما كانت مقرا بارزا لشبكات التجسس والسياسيين.
واليوم تجد قبرص فرصة مناسبة للعب دور كبير، خاصة في ظلّ الحشد الفرنسي والأميركي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، وقد ذكرت تقارير منذ أيام أن الحكومة البريطانية وضعت قاعدة عسكرية تابعة لها في قبرص، تحت تصرف القوات الفرنسية في عملياتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية؛ في خطوة لا يمكن قراءتها بمعزل عن كل التطورات المحيطة بالدفع الدبلوماسي نحو قبرص، والتنافس الدولي عليها تحت ذريعة مساعدة اقتصاد الجزيرة التي يمكن أن تكون إحدى الأوراق الأميركية لتحجيم الدور الروسي أو التركي في المنطقة عند الضرورة.