الأزمات تهدد المرور السالك بين دول شينغن

دفع الصراع المستمر في الشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا، إضافة إلى عودة بعض طرق الهجرة الرئيسية إلى النشاط، البعض من بلدان الاتحاد الأوروبي إلى تشديد الرقابة على حدودها. لكن تشديد الرقابة قد يعرقل مزايا شينغن.
بروكسل - تدفع التهديدات الأمنية المتزايدة في أوروبا الدول إلى تشديد ضوابطها الحدودية، فيما تهدد الإجراءات الشديدة المرور السالك بين دول شنغن في الأشهر المقبلة مما يرفع التكاليف الاقتصادية ويعطل الأعمال.
وعادت العديد من الدول الأعضاء في منطقة شنغن الأوروبية، التي تتيح حرية الحركة فيما بينها، إلى فرض ضوابط أمنية على حدودها خلال الأشهر الأخيرة.
وأدخلت ألمانيا والنمسا وسلوفينيا وإيطاليا والنرويج والدنمارك والسويد وفرنسا ضوابط حدودية بين يونيو ويوليو، ووسعت بعض القيود القائمة.
ويؤثر هذا أيضا على سلوفاكيا وجمهورية التشيك وبولندا وسويسرا وكرواتيا والمجر بسبب حدودها المشتركة مع هذه البلدان.
وتواجه نصف الدول الأعضاء في منطقة شنغن البالغ عددها 29 دولة حاليا لذلك ضوابط على جميع حدودها أو أجزاء منها. ومن المقرر أن تنتهي معظم هذه الإجراءات بين نوفمبر وديسمبر، لكن قواعد شنغن تسمح بالتمديدات، مما يعني أنها قد تظل سارية حتى 2025.
وتقرر توقيع اتفاقية شنغن في 1985 بهدف إلغاء الضوابط الحدودية المادية داخل أوروبا وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع عبر القارة. ودخل الاتفاق حيز النفاذ في 1995. وهو يشمل اليوم 25 عضوا من أصل 27 عضوا في الاتحاد الأوروبي والأعضاء الأربعة في رابطة التجارة الحرة الأوروبية.
الدوافع الرئيسية شملت زيادة خطر الإرهاب المرتبط بالصراع في الشرق الأوسط وزيادة النشاط في طرق الهجرة الرئيسية
وتحمل اتفاقية شنغن فوائد اقتصادية متعددة، تشمل خفض تكاليف النقل بين الدول الأعضاء (حيث لا تخضع المركبات التي تنقل البضائع والأشخاص للتأخير عند المعابر الحدودية)، وتشجيع السياحة بين الدول الأعضاء، والسماح للناس بالسفر بين الدول الأعضاء للدراسة أو العمل بحرية كبيرة. وتحدد بيانات الاتحاد الأوروبي الرسمية أن الأوروبيين يسجلون وحدهم 1.25 مليار رحلة داخل منطقة شنغن سنويا.
وجاء في تقرير لموقع ستراتفور أن الأسباب الرئيسية التي دفعت إلى إرساء الضوابط الحدودية الحالية تشمل زيادة مستويات الهجرة في أوروبا، ومخاطر الإرهاب المرتبطة بالصراع في الشرق الأوسط، وتهديدات العدوان الروسي المرتبط بالحرب في أوكرانيا.
وتحدد اتفاقية شنغن أن على الدول الأعضاء تقديم مبررات منطقية لإعادة فرض ضوابط على الحدود.
وشملت الدوافع الرئيسية في الأشهر الأخيرة زيادة خطر الإرهاب في أوروبا المرتبط بالصراع المستمر في الشرق الأوسط، وخطر العدوان التقليدي وغير التقليدي من روسيا في خضم الصراع في أوكرانيا، وزيادة النشاط في بعض طرق الهجرة الرئيسية إلى أوروبا (ارتفع عدد الوافدين عبر طريق الهجرة الذي يربط غرب أفريقيا بجزر الكناري بنسبة 174 في المئة خلال الأشهر الستة الأولى من السنة الحالية، وارتفع عدد الوافدين عبر طريق شرق البحر المتوسط الذي يربط تركيا بالبلقان بنسبة 75 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2023).
وبينما يتوجب على أعضاء شنغن إخطار المفوضية الأوروبية بقراراتهم مسبقا، إلا أن قرار إعادة فرض الرقابة على الحدود يبقى في النهاية في أيدي الحكومات الوطنية ولا يمكن لبروكسل إيقافه. وبينما تنص قواعد شنغن على أن ضوابط الحدود يجب ألا تبقى قائمة لمدة تزيد عن ستة أشهر، تحدد المعاهدة أنها يمكن أن تظل سارية المفعول في ظل ظروف استثنائية طالما رأت الحكومات أنها مهمة.
وتشمل الأسباب التي حددتها النمسا لفرض ضوابط على حدودها مع سلوفينيا والمجر “حالة التهديد الجديدة المرتبطة بالهجرة غير المستقرة والوضع الأمني في الاتحاد الأوروبي، والضغط على نظام استقبال اللجوء، وضغط الهجرة الشديد على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي من جهة تركيا وغرب البلقان، وتهديد الاتجار بالأسلحة والشبكات الإجرامية بسبب الحرب في أوكرانيا، وتهريب البشر، والتداعيات الأمنية التي تلت هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، إضافة إلى العديد من التحذيرات والتهديدات الإرهابية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وصعود معاداة السامية في أوروبا، وخطر تسلل المجرمين والإرهابيين ضمن تدفقات الهجرة”. وتذكر معظم الحكومات الأوروبية الأخرى التي تفرض حاليا ضوابط على الحدود أسبابا مماثلة.
وأشارت الدنمارك إلى خطر الإرهاب الإسلامي المتزايد وخطر التجسس من المخابرات الروسية في تبريرها لقرارها بإعادة فرض الرقابة على الحدود مع ألمانيا. وقالت الدنمارك في أغسطس إنها ستعزز الرقابة على الجسر الرئيسي الذي يربطها بالسويد بسبب زيادة جرائم العنف في جارتها الشمالية.
وتركز مبررات النرويج خاصة على روسيا، وتشمل “التهديد المتزايد للبنية التحتية الحيوية” و”عمليات المخابرات الروسية التي تهدد الصادرات النرويجية من الغاز أو الدعم العسكري لأوكرانيا”.
وتتبنى دول أخرى أسبابا أكثر تحديدا لإعادة فرض الرقابة على الحدود، إضافة إلى التخفيف من التهديدات المرتبطة بروسيا والشرق الأوسط والهجرة. وتسلط إيطاليا، على سبيل المثال، الضوء أيضا على رئاستها المستمرة لمجموعة السبع، وتذكر فرنسا استضافتها لدورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في باريس هذا الصيف. وتقول روما وباريس إن كل هذا يعرضهما لتهديدات خارجية أكبر.
وستبقى أسباب وضع الضوابط الحدودية المستمرة قائمة خلال الأشهر المقبلة، مما ينذر باستمرار الإجراءات الأمنية في جميع أنحاء منطقة شنغن.
وليست للحرب في أوكرانيا نهاية في الأفق، وتشير المكاسب التي حققتها كييف مؤخرا في منطقة كورسك الروسية إلى أن مفاوضات السلام ستظل بعيدة المنال.
وفي نفس الوقت، لا يزال وقف إطلاق النار المستدام في غزة بين إسرائيل وحماس بعيد المنال.
وتشير الضربات المتبادلة المستمرة بين إسرائيل وميليشيا حزب الله اللبنانية إلى احتمال اندلاع صراع إقليمي أوسع قد يشمل جهات فاعلة إضافية أكثر نشاطا (مثل إيران).
وتعد الهجرة غير النظامية الوحيدة، من بين الدوافع الرئيسية التي تجعل الدول الأوروبية تعيد فرض الرقابة على الحدود، التي من المرجح أن تنحسر خلال الأشهر المقبلة. فغالبا ما تتراجع تدفقات الهجرة إلى أوروبا خلال فصل الشتاء، عندما تكون الظروف الجوية أقل ملاءمة للعبور البري والبحري. ولكن حتى لو انخفض عدد الوافدين الفعلي إلى أوروبا، تعني القوة الحالية التي تتمتع بها القوى السياسية المناهضة للهجرة في جميع أنحاء القارة، إلى جانب الهجمات الإرهابية البارزة التي تشنها جهات فاعلة منفردة ذات خلفيات مهاجرة، أن الحكومات الوطنية ستستمر في مواجهة ضغوط اجتماعية وسياسية كبيرة للحفاظ على ضوابط الحدود.
وستكون دول شنغن التي تديرها أحزاب سياسية مناهضة للهجرة ولتكتل أوروبا أكثر استعدادا للحفاظ على ضوابط حدودها. لكنها ستؤثر أيضا على البلدان الأكثر تقدمية التي تشترك معها في الحدود.
وقالت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر، في الرابع عشر من أغسطس، إن البلاد تدرس تمديد ضوابطها الحدودية إلى ما بعد الموعد النهائي الحالي في الخامس عشر من ديسمبر. وذكرت أن ضوابط الحدود مع النمسا وبولندا وسويسرا وجمهورية التشيك تساعد في الحد من الهجرة غير النظامية ويجب أن تبقى قائمة “طالما كانت ضرورية”. وتبقى القضية مثيرة للجدل داخل الحكومة الائتلافية الألمانية، حيث دعا أعضاء حزب الخضر (أحد الأعضاء الثلاثة في الائتلاف الحاكم) إلى رفع القيود عن الحدود.
وقال متحدث باسم وزارة الداخلية في جمهورية التشيك، في السادس والعشرين من أغسطس، إن بلاده وبولندا قلقتان بشأن التداعيات الاقتصادية التي تخلفها ضوابط الحدود الألمانية، وطلب من برلين دراسة تدابير بديلة.
وبينما يبقى من غير المرجح إلغاء اتفاقية منطقة شنغن، ستواجه الشركات والأفراد الذين يعتمدون على حركة الأشخاص والبضائع عبر الحدود تأخيرات في الشحن والسفر في خضم الغموض المتزايد بشأن التدقيق الحدودي خلال الأشهر المقبلة. كما من غير المرجح إلغاء اتفاقية شنغن في المستقبل المنظور بسبب التأثير السلبي العميق الذي سيحدثه ذلك على الاقتصاد الأوروبي.
ولنفس الأسباب الاقتصادية، من غير المرجح أيضا أن تخرج البلدان الفردية من منطقة السفر المفتوحة في أي وقت قريب. لكن إعادة التفعيل المتكررة للضوابط الحدودية ستبقى القاعدة في أوروبا، على الأقل في المدى القصير إلى المتوسط. وسيضاعف هذا التكاليف الاقتصادية والغموض للأفراد والشركات التي تعتمد على حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود.
وسيؤدي السيناريو منخفض الاحتمال (ولكن عالي التأثير) الذي يتقرر فيه إلغاء اتفاقية شنغن إلى اضطرابات أعمق بكثير في التجارة والسياحة وزيادة تكاليف دائمة للشركات والمستهلكين في أوروبا. كما يعقّد هذا بشكل دائم التنقل عبر الحدود للعمل والتعليم والزيارات العائلية.
ومن المرجح أن يوتر العلاقات بين الدول الأوروبية المجاورة بسبب فرض ضوابط على الحدود تؤثر سلبا على جيرانها، مما يشعل نزاعات دبلوماسية تضعف وحدة الاتحاد الأوروبي.
ومن المحتمل أن يتشكل هذا السيناريو على مدى سنوات عديدة، حيث من المرجح أن يتسبب تركيز الحكومات الأوروبية المتزايد على أمن الحدود في تآكل منطقة شنغن تدريجيا بدلا من إلغاء اتفاقها بشكل مفاجئ. لكن احتمال إلغاء الاتفاقية سيرتفع خاصة إذا دخلت الأحزاب السياسية المناهضة للهجرة والمشككة في أوروبا المزيد من الحكومات في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وهو ما لا يمكن استبعاده نظرا للاتجاهات الاجتماعية والسياسية المستمرة داخل الكتلة.
وحدد تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي في 2016 (أحد أكثر التقارير شمولا حول هذا الموضوع حتى الآن) أن التعليق الدائم لاتفاقية شنغن سيمثل خسارة تصل إلى 0.14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للاتحاد الأوروبي، أو حوالي 230 مليار يورو سنويا.
وستكون التكاليف أقل إذا واصل جزء كبير من أعضاء شنغن العمل ببنود الاتفاقية. وذكر التقرير أن التأثير على أسواق العمل سيشمل “تقييد حركة الوظائف، وزيادة عدم تجانس أسواق العمل الإقليمية، والتطور غير المتكافئ لأسعار العقارات”. ويحدد أن “إعادة فرض الرقابة على الحدود قد تؤثر مباشرة على تحركات السلع والخدمات حيث يمكن أن تزداد أوقات انتظار سائقي الشاحنات والركاب”، بينما “يمكن أن تتأثر الشركات بشكل غير مباشر بارتفاع تكاليف تشغيل الموظفين والتكاليف الأخرى مثل تجديد مخزونها لأن تسليم السلع في الوقت المناسب قد يكون محدودا”. كما “يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الواردات إلى زيادة عامة في الأسعار مع انخفاض الدخل الحقيقي للأسر والشركات. ويؤثر كل هذا على الاستهلاك والاستثمار”.