الأردن يمنح اللجوء إلى حيوانات شردتها الحرب المفترسة

أسود ودببة من حلب والموصل وغزة تستقر في جرش، بعد نقلها في مغامرات محفوفة بالمخاطر من قبل عاملين في منظمة عالمية لإنقاذ الحيوانات.
الثلاثاء 2019/01/29
لمن الأولوية في الإنقاذ، للبشر أم للحيوان

قد يتساءل البعض عمّن ننقذ من ويلات الحروب في خطوة عاجلة، الجميع يتفقون على أن البشر هم الأولى، لكن أليس للحيوانات نصيب من الحياة في أمان، خاصة وأننا لا نستطيع العيش على كوكب الأرض دونها؟ منظمة عالمية تتعهد بإنقاذ وحماية الحيوانات التي تعيش ظروفا صعبة في جميع أنحاء العالم، لذلك غامر العاملون فيها لإنقاذ الحيوانات التي تعيش في مناطق النزاع في كل من سوريا والعراق وفلسطين.

جرش (الأردن) - بعد أن كانت تسعد الناس وتلاعب الأطفال عن بعد في مدن إقامتها، نكلت الحرب بحيوانات الحدائق في سوريا وفلسطين والعراق، كما أتت على البشر والشجر والحجر، وأجبرت هذه الحيوانات المتهمة دائما بأنها الأشد افتراسا على الهرب من ويلات الرصاص، والبحث عن ملاذ آمن يحميها من القذائف العشوائية في ما يشبه “اللجوء السياسي أو الاجتماعي”.

من غزة في فلسطين، إلى حلب في سوريا، وصولا للموصل في العراق، تم نقل تلك الحيوانات المفترسة في مغامرات محفوفة بالمخاطر لعدم القدرة على حمايتها وتأمين غذائها، أو حتى تمكنها من الدفاع عن نفسها، فالحرب الطاحنة كانت أشد فتكا من مخالبها الحادّة.

أسود ونمران أتت من أدغال أفريقيا ودببة من آسيا، تُحاول أن تتعايش في موطنها الجديد بمحمية “المأوى” الطبيعية في جرش الأردنية (شمال)، لتمضي ما تبقى من حياتها في مهجر جديد عليها، ما عاد يقتصر على البشر.

بعد إجراء الدراسات اللازمة من قبل السلطات الأردنية، اختيرت المحمية كمأوى جديد لهذه الحيوانات التي وصلت مثخنة بالجراح الجسدية والكدمات النفسية إلى غابة تعتبر واحدة من آخر الغابات المتبقية في الأردن، تتميز بكثافة أشجارها الحرجية من أنواع البلوط والصنوبر الحلبي والجيجب.

وعن أهمية “المأوى”، قال مديرها مصطفى خريسات، “تعتبر المحمية منطقة ذات أهمية خاصة حسب القوانين الزراعية والبيئية في الأردن، حيث تم رصد ثلث الحيوانات الموجودة في شمال الأردن فيها”.

وأوضح، أن “المحمية هي الأولى والوحيدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تعنى بإيواء الحيوانات المفترسة في مساحة تصل إلى 400 كيلومتر مربع تم تجهيزها بشكل كامل من حيث المدربين والمختصين والعلاج والحماية والمأكل والمشرب”.

أما عن الحيوانات المهجرة التي تعيش في المحمية، قال خريسات، “أربعة أسود جاءت من غزة، ودب وأسد من الموصل، لكن أسد الموصل تم نقله إلى جنوب أفريقيا”.

وتابع “خمسة أسود ودبّان جاءت من حلب، وتم نقل أحد الأسود إلى جنوب أفريقيا أيضا، وهي ما تبقى من أصل حديقة حيوانات كانت موجودة هناك تضم ما يزيد عن 200 حيوان مختلف، نفقت نتيجة الحرب”.

الحيوان كالطفل يحبّ الملاطفة
الحيوان كالطفل يحبّ الملاطفة

وأشار خريسات، إلى أن جميع الحيوانات لها قصص مثيرة للشفقة، فبعضها تم إنقاذه من التجارة والتهريب والسرقة وسوء المعاملة، والبعض الآخر وجدت في المحمية ملاذا آمنا، بعد أن تولت منظمة “فور بوز” أو (الكفوف الأربعة) النمساوية نقلها من ويلات القصف في مناطق النزاع.

ولفت، إلى أن “الهدف من نقلها هو الحفاظ على حياة تلك الحيوانات، وحمايتها من الحروب الدائرة في مناطقها”. ونوّه، إلى أن “نقلها لم يكن بالأمر السهل، لكن السمعة العالمية للمنظمة النمساوية ذللت الصعاب، فدورها معروف في مجال حماية الحيوانات ذات الظروف الصعبة في جميع أنحاء العالم، من خلال مكاتب في 15 دولة”، مؤكدا، أن المنظمة تلقى دعما من جميع الحكومات والدول، للدور الإنساني المنوط بها.

من الأسر إلى اللجوء

 حديقة حيوانات بيسان لم تسلم من القصف الإسرائيلي على غزة، ما دفع الناشطون البيئيون لبحث فرصة ترحيلها إلى حيث الأمان، لذلك تدخلت منظمة “فور بوز”.

وكانت المغامرة الأولى للمنظمة، في صيف 2014، والتي نجحت في ترحيل سلطان وصابرين، وهما أسدان وصلا إلى عمّان بنفسية متعبة وحالة صحية منكسرة، يقول خريسات، “لقد لمست الأشجار لأول مرة عندما وصلت إلى هنا.. ولدت معظم الحيوانات في الأسر، ولن تكون قادرة على البقاء على قيد الحياة بمفردها”، يذكر أن هذه الحيوانات وقع جلبها من آسيا وأفريقيا وتم توطينها في فلسطين.

ماكس ومونا، أسدا غزة الآخران، احتفظ بهما صاحب حديقة للحيوان في منزله، ليحميهما أيضا من القصف، إلا أنه عجز عن ذلك، فطلب في العام نفسه (2014) من المنظمة النمساوية حمايتهما، أسوة بباقي الحيوانات، وهو ما تم بالفعل بعد رحلة شاقة ومصاعب نفسية عاشتها الحيوانات البرية التي تأقلمت على الحياة وألفت الناس في حديقة بيسان.

وعن عملية نقل أسود غزة يقول المصري أمير خليل الذي يعمل مع المنظمة النمساوية، “الفلسطينيون والإسرائيليون لا يتفقون أبدا على أي شيء، لكن عندما أتيت لأخذ الحيوانات نحّوا أسلحتهم، لأن الحيوانات لا تنتمي لا إلى حماس ولا إلى إسرائيل”، مضيفا، “ليس لديها جوازات سفر، لم تفعل أي شيء ولم تكن أبدا فاعلا في أي حرب، الكائن الحي الوحيد الذي يشنّ حروبا هو الإنسان وليس الحيوانات”.

ويقول خريسات، “يتساءل الناس أحيانا، لماذا ننقذ الحيوانات بدلا من الناس، لكن من الذي سيقاتل دفاعا عن حقوق هذه الحيوانات؟ يجب أن يتحدث شخص ما نيابة عن تلك الحيوانات، عندما تكون لدينا تلك الحيوانات في الأسر، يصبح لزاما علينا أن نعتني بها كما لو كانت أحد أبنائنا لأنها مسؤوليتنا جميعا”.

ولم تكن المهمة سهلة على العاملين في “مأوى” لترويض هذه الحيوانات، لاسيما مع عدوانية كثير منها في البداية نتيجة تعرّضها لسوء معاملة في أماكن إقامتها السابقة.

يقول فيصل الرفاعي أحد العاملين في الحديقة، “أبدت الحيوانات في البداية شراسة لأنها لم تكن تتلقى العناية في مكان إقامتها القديم، كانوا يطعمونهم خبزا وحليبا وهي حيوانات لاحمة، تخيّل أنهم لا يعطون الأسود اللحم مثلا”.

"المأوى"معلم سياحي يستقطب عشاق الحيوانات المفترسة من داخل الأردن وخارجه
"المأوى"معلم سياحي يستقطب عشاق الحيوانات المفترسة من داخل الأردن وخارجه

لكن الحيوانات التي وصلت إلى “مأوى”، تعيش اليوم محاطة برعاية نفسية نجحت في أن تزيل عنها الأرق الذي خلفه صوت الصواريخ، ولا خطر يهدد اليوم حياتها، فالطعام تتناوله وفق احتياجاتها بأيدي خبراء أردنيين مدربين.

 تمكنت المنظمة العالمية من نقل عدد من الأسود من حديقة حيوانات حديقة “عالم السحر” في ريف حلب الجنوبي، عن طريق الحدود التركية برّا، ومن ثم بالطيران إلى الأردن، في 2017. والحيوانات التي وصلت الأردن من هناك، تتمثل في خمسة أسود، ونمرين، واثنين من الدببة، واثنين من الضباع وكلبين، أطلقت في محمية المأوى شمال الأردن.

 وكان صاحب الحديقة غادر سوريا بعد اندلاع الحرب، وعهد لأحد المشرفين على الحيوانات بحمايتها طوال السنوات السبع الماضية، إلا أنها باتت تشكّل عبئا ماليا نتيجة حاجتها للرعاية، كما حذّرت بعض الجمعيات المعنيّة بالحيوان إلى تحوّلها لخطر على البشر في حال خرجت من الحديقة.

وبعد أن تلقّت المنظمة رسائل من سوريين أخبروها عن وضع الحيوانات في الحديقة وطلبوا منها التدخل، قرر أمير خليل مدير قسم مواجهة الطوارئ في منظمة “فور بوز”، الدخول إلى حلب مخاطرا بحياته لإنقاذ الحيوانات التي تُركت وحدها في مواجهة الموت في حدائق مهجورة وبلا حماية.

وبالنسبة إلى المهمة التي نُفّذت في سوريا، يقول خليل، إنه اتصل بمالك حديقة الحيوان، وقال له، إنه إذا لم يتبرع بالحيوانات للمنظمة، فإنها ستموت، لذلك وافق المالك.

ومن الحيوانات التي وصلت إلى إقامتها الجديدة دب أسود آسيوي يدعى “لوز”، حيث وجد عدد من الحيوانات الأخرى التي أُنقذت من نفس الحديقة، ومع ذلك ظل لفترة طويلة يشعر بالخوف، وظل في الأيام الأولى يركض للاختباء في كل مرة يسمع فيها أصوات شاحنات أو مروحيات، لكنه بدأ يتعافى شيئا فشيئا.

قالت رغد زيتون تعمل طبيبة بيطرية في المأوى، “عندما جاءت حيوانات حديقة حلب هنا لأول مرة، كانت في حالة سيئة للغاية، كانت مليئة بالجروح ونحيفة للغاية، وفقدت الدببة نصف وزنها، وكانت تبدو عليها أمارات الرعب، لكنها تحسّنت في ما بعد بالاعتماد على برامج لعب وترويض نفسي”.

وبات حمزة ودانا وحلب وكهرباء، أسود حلب، تعيش اليوم علاقة قُرب ومحبة مع العاملين في المأوى، فكل منها يستطيع أن يعرف اسمه، ويستجيب بشكل فوري عند المناداة عليه.

التفتيش يعرقل لجوء الحيوانات

الحياة مع الحيوانات تجعلنا أكثر إنسانية، هذا ما يراه خليل الذي يقول، “نحن نتشارك مع الحيوانات هذا الكوكب، وعلينا أن نتعلّم كيف نعيش معا، البشر وحدهم غير قادرين على التعايش مع بعضهم البعض”.

ولأن الحيوانات المحبوسة في أقفاص تعتمد في كثير من الأحيان على البشر لتحريرها، يغامر خليل في الدخول إلى الموصل لنقلها مباشرة إلى الأردن في رحلة محفوفة بالمخاطر، نظرا إلى وجودها في موقع النزاع بين القوات العراقية وداعش، وقد نفق معظم الحيوانات في تبادل لإطلاق النار أو من الجوع.

وعندما تحرر النصف الشرقي من الموصل، في يناير عام 2017، لم يكن هناك سوى اثنين من الحيوانات الناجية، دب وأسد.

الدب حزين مما يفعله البشر
الدب حزين مما يفعله البشر

دخل خليل في شهر فبراير إلى الموصل لحماية ما تبقى من الحيوانات وفحصها وتوفير الدواء والطعام لها، ثم عاد في مارس لإنقاذ هذه الحيوانات المهدّدة بالقتل.

وتعرّض خليل خلال رحلته للإيقاف في نقاط تفتيش الجيش العراقي ليجبر بعدها على إرجاعها التي معه نظرا إلى عدم تقديمه ما طلبه الجيش من وثائق تتعلق بهذه الحيوانات، ليعود مجددا في أبريل مع وثائق إضافية بعد التفاوض بين المنظمة والسلطات العراقية، ويتمكّن في النهاية بالعود ة مع القليل المتبقّي منها هي دب وأسد إلى عمّان.

يقول خليل، “كل المهام كانت صعبة، لكن رحلات الموصل كانت واحدة من أكبر التحديات التي واجهتها، كان التعامل مع الجيش شديد التعقيد، وكان تنظيم داعش قريبا جدا”.

يقول خريسات عن باقي الحيوانات التي تعيش اليوم في المحمية، إن “السلطات الأردنية المختصة، صادرتها، بعدما تم ضبطها خلال محاولات التهريب والتجارة غير المشروعة، وجزء منها صُودر من قبل أصحاب لها كانوا يحتفظون بها”.

هناك طلب كبير من بعض الدول المجاورة للأردن على هذه الحيوانات البرية، والأردن يعتبر ممرّا لهذه الحيوانات يغري المهرّبين بالربح الوفير، لكن يتم في كل مرة مصادرة هذه الحيوانات سواء من خلال المراكز الحدودية، أو حماية الطبيعة أو الشرطة البيئية.

يقول هيلي دونغر، رئيس المنظمة النمساوية، “إن الحيوانات التي نقلت للمحمية، كلها ذات ماض مروّع، فيما تمّ جلب بعضها من غزة وحلب والموصل، تم إنقاذ شبلين بعد أن ألقت السلطات القبض على مهرّبين عرضوهما للبيع على موقع فيسبوك”.

حياة تلك الحيوانات القادمة من جحيم المعارك، انقلبت اليوم رأسا على عقب، فبعد أن كانت تنتظر الموت المحتوم، باتت تعيش براحة واستجمام، فالطعام والاهتمام يسيران بانتظام. ولأن جرش مدينة أثرية ساحرة في منتصف الطريق الدولي من عمّان إلى إربد، وبموقع يتوسّط خمس محافظات محاطة بالهضاب المكسوّة بالغابات، فغالبا ما يأتيها الزوّار من الأردنيين والأجانب، لذلك باتت “المأوى” وبعد أن أعادت الآمان والطمأنينة لحيواناتها، اليوم معلما سياحيا، يستقطب عشاق الحيوانات المفترسة من داخل الأردن وخارجه، تلك الحيوانات التي ستظل في موطنها الجديد شهود عيان على آلام تأبى النسيان.

20