الأخلاق والثورة

الأحد 2014/12/21

الفساد بكل أشكاله مُدان. هذا من حيث المبدأ الأخلاقي. لكنْ يرى البعض أنّ غالبية الشعب السوري فاسد، وبلا أخلاق، ويلقي اللّوم كلَّه في عجز الثورة عن تحقيق الانتصار على فساد الشعب وسوء أخلاقه، وسط استغرابٍ كبير لعدم الإخلاص لمبادئ الثورة. هنا علينا التوقف قليلاً، ومحاكمة المشهد “الأخلاقي” برمته، دون فصله عن مجريات الأحداث، وعلى كل الأصعدة.

قبل الثورة، كان عموم الشعب يمارس أخلاق السلطة؛ حيث يتفشى الاستغلال والأنانية والوصولية، خاصة لتحصيل لقمة العيش، وتوفير متطلبات الحياة الأساسية. أخلاق السلطة هذه زادت سوءاً مع انتهاجها، رسمياً، السياسات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد.

هذه السياسات القائمة على تحرير الأسواق أمام البضائع الأجنبية، وإغلاق المعامل الوطنية، وخصخصة وتسعير الخدمات المجانية للمواطن، ورفع الدعم عن الوقود، ثم ضرب المنتوج الزراعي. وهو ما زاد من صعوبة الحياة أمام الشعب، وقلل من قيم التكافل الاجتماعي، والتي كانت سائدة جزئياً من قبل، وبالتالي قلت مناعة الشعب تجاه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وتفشت الأنانية. هذه الحالة تضخمت مع استمرار التحكم الأمني والاعتقال، ما جعل الشعب في حالة هي مزيج من الخوف والأنانية والعزلة.

اندلعت الثورة احتجاجاً على سياسة النهب هذه والمحمية بالأجهزة الأمنية، ورفضت الثورة معها كل أخلاق السلطة. وهنا ظهرت أخلاق الثورة الجديدة. ففي آذار 2011، خرج الشباب السوري إلى الشوارع والساحات، بأحلامهم الثورية، ورغباتهم بتغيير واقعهم المزري بالكامل، رافضين السلطة بعجرها وبجرها، بفسادها وأخلاقها، وكل قيمها البائسة، من أنانية ومحسوبية ووصولية. حيث قدّم الشهداء دماءَهم، في التظاهرات، وفي المعتقلات، بكل سخاء، وبكل إنكار للذات، بعيداً عن الأنانية والوصولية والإفساد، ليعيش الآخرون بحال أفضل.

في بداية الثورة، حيث حلم التغيير في أوجه، تجد الشعبَ أغلبَه يهبّ لإغاثة المناطق المنكوبة، وإيواء النازحين، والتبرع بما تيسر من مال وطعام، وحتى مجوهرات النساء الثمينة كانت تُقَدَّم بسخاء خدمة للثورة. والكثير ممن قدّموا التضحيات للثورة كانوا في السابق يمارسون الفساد ويتحلون بأخلاق السلطة، لكنهم في العمق يرفضونها، ويتطلعون إلى مجتمع لا يضطرهم العيش فيه إلى التخلي عن أخلاقياتهم.

أخلاق الثورة هذه ترافقت مع حلم التغيير بشهر (كما في تونس ومصر)، أو أقلّها عدة أشهر، وعبر التظاهرات السلمية. كان الواقع السوري شديد التعقيد؛ السلطة استخدمت الجيش ومدافعه وطائراته، في عملية إبادة عشوائية، وتهجير، وقتل تحت التعذيب. فيم تحولت الثورة إلى العسكرة، وحاجتها إلى المال والسلاح والدعم الإعلامي، ما سمح بعد طول الصراع بتغلغل المال السياسي، ثم الجهادية، إلى الثورة، وبدعم من النظام الذي أخرج الإسلاميين من سجونه لهذا الغرض، ودعم من الدول الممولة للجهادية، ودعم من المعارضة التي رحبت بها. انتهى الحال بتحكم الدول الكبرى والإقليمية بالملف السوري ليخرج الأمر من يد السوريين.

هنا بدأ الانكفاء عن الثورة، واليأس من القدرة على الانتصار، وزادت صعوبة الحياة مع التراجع الاقتصادي الكبير، وهبوط الليرة السورية، لينقلب المشهد الأخلاقي، بعد أربع سنوات من الثورة، رأساً على عقب؛ حيث تفشى الفساد في أغلب المنظمات المتعلقة بالثورة، وتحكم المال السياسي فيها، وتقلصت روح الإغاثة لدى الشعب السوري، وتصاعد الاستغلال.

ويمكن القول إن الشعب عاد إلى أخلاق السلطة، والتي زادت فساداً، حيث الأنانية والوصولية والمحسوبية، حتى في المناطق غير الخاضعة للنظام، وفي مناطق اللجوء خارج الحدود، وكذلك في دول اللجوء الأوروبية البعيدة؛ وتلاشت بذلك أخلاق الثورة.

أما من تمسك بأخلاقه الثورية من الناشطين العاملين على الأرض، فقد اضطرّ إما إلى الانكفاء والسلبية، بسبب ملاحقة الجهادية له، حيث تقيم في المناطق المحررة ما يشبه الأفرع الأمنية، ولكن باسم الدين، أو أنه اعتُقل بالفعل من قبلهم وهُدِّدَ بالقتل، أو قُتِل، أو أنه اعتُقِل من قبل أجهزة النظام، بسبب التقارير الأمنية التي يُعدُّها مخبرون تابعون للنظام من داخل المناطق المحررة والمحاصرة.

وفي المناطق الموالية للنظام، أو الصامتة، الحال من بعضه؛ حيث اليأس من قدرة النظام، أو أحد الطرفين، على الحسم، والشعور بالعجز، وتفشي المعاناة المعيشية، إضافة إلى إطلاق يد الشبيحة ومجموعات الدفاع الوطني، والحواجز الأمنية، دون محاسبة، لتقوم بملاحقة المطلوبين للخدمة الإلزامية، وتمارس أعمال “التشليح”، والقتل، والاختطاف، والدعارة، وحتى الاتجار بالأعضاء. ما يعني أن الشعب في أغلبه بات يعيش حالة عجز دفعته للتمسك بأخلاق السلطة الفاسدة. إذن اليأس والعجز هما ما دفع بالشعب للاندماج مجدداً بثقافة السلطة، رغم رفضه لها.

واقع الحال المعقد يقول باستحالة ذلك؛ حيث تفشت الجهادية والمال السياسي، والتدمير الشامل للبنى التحتية، والمناطق السكنية، فضلاً عن المعارضة الرديئة والتابعة، انتهاءً بالتحكم الإقليمي والدولي. والأسوأ حالة الأنانية والفردانية والشعبوية التي حكمت ناشطي الثورة، رغم ما قدموه للثورة بشكل فردي، لكن فردانيتهم هذه حالت دون أخذ دورهم في قيادة الثورة، والحفاظ على زخمها.

5