الأب الروحي لسيري مرعوب من سيري

هل بالإمكان السيطرة على الوحش الذي أخرجه فيسبوك من القمقم؟
السبت 2020/02/15
سيري.. امرأة جميلة تقود إلى النصر

رغم التطور الكبير في تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي ساعدت الشركات على إجراء تجارب لم يكن العلماء يحلمون بمثلها حتى وقت قريب، تبقى معضلة التمييز بين الخير والشر، وفرز الأخبار التي تروج للكراهية أمرا بعيد المنال، ويحتاج مع توسّع قاعدة البيانات إلى أعداد من البشر تفوق قدرة الشركات. سيناريو يجد فيه الأب الروحي لتطبيق سيري ما يثير الرعب.

لندن - بات بإمكان القائمين على فيسبوك اليوم إجراء تجارب على السلوك البشري لم يكن علماء النفس يحلمون بإجرائها من قبل. هذه التجارب، كما يقول توم غروبر، العالم الذي ترعرع وسط تقنيات الذكاء الاصطناعي، يتم اختبارها على شريحة واسعة تشمل الملايين من الأشخاص، وهو حجم، كان إلى وقت قريب، يستحيل أن تحيط به أبحاث وتجارب أكاديمية تجرى بالطرق المألوفة.

اليوم صار باستطاعة مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ إجراء تعديلات طفيفة على تطبيقات الذكاء الاصطناعي عشرات المرات يوميا، للتأكد من المواصفات والوظائف التي تبقي المشتركين مواظبين على تصفح موقعه، ينقرون من حين إلى آخر على الإعلانات دون أن يميزوا بينها وبين الخبر.

ويمكن للقائمين على فيسبوك توظيف نتائج تجارب كبيرة تجرى على مستوى التحليل النفسي للاستفادة منها، وهي تجارب يؤكد غروبر أنه “يستحيل على العلم القيام بها على هذا المستوى اعتمادا على الذكاء البشري”.

بالتأكيد لن يكون غروبر، الذي ينتظر علماء التكنولوجيا كلمته التي سيلقيها في مؤتمر علمي خلال شهر أبريل القادم حول الذكاء الاصطناعي، من النوع الذي يروج لنظريات المؤامرة، أو من النوع الذي يميل إلى تهويل الأمور. فهو، إلى جانب كونه رائدا من رواد الذكاء الاصطناعي، مخترع لتقنية سيري (Siri) المساعد الرقمي الخاص على هواتف آيفون الجوالة، التطبيق الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الكلام والإجابة على المليارات من الأسئلة كل يوم.

يقول غروبر إن “المتابعين لفيسبوك ويوتيوب على شبكة الإنترنت بات عددهم اليوم يتجاوز عدد أتباع أكبر ديانتين في العالم، المسيحية والإسلام”. فالأشخاص الذين يتجهون إلى القبلة خمس مرات يوميا للصلاة، حسب غروبر، يفعلون ذلك خمس مرات فقط في اليوم، بينما جيل الألفية الثانية يتوجه إلى الهواتف الذكية أكثر من 150 مرة يوميا، كما تبين الإحصائيات.

شبكات فائقة القدرة

توم غروبر: عدد المتابعين لفيسبوك ويوتيوب على الإنترنت بات يتجاوز عدد أتباع أكبر ديانتين في العالم، المسيحية والإسلام
توم غروبر: عدد المتابعين لفيسبوك ويوتيوب على الإنترنت بات يتجاوز عدد أتباع أكبر ديانتين في العالم، المسيحية والإسلام

نشأت تقنية سيري من مشروع محدود لشركة صغيرة اسمها SRI إنترناشيونال. عمل غروبر مستشارا لدى الشركة ليقوم بعد فترة وجيزة، بالتعاون مع اثنين من زملائه، هما داغ كيتلاوس وآدم شير، بتطوير تقنية المساعد الرقمي، التي تجاوزت إمكانيات التقنية السائدة آنذاك والمعروفة باسم داربا. واختار الشركاء الثلاثة اسم Siri للشركة الجديدة، وهي كلمة ترمز في الميثولوجيا القديمة إلى امرأة جميلة تقودك إلى النصر.

ويمكن تعريف سيري بأنها مجموعة من الشبكات العصبية فائقة القدرة، تتألف من مجموعة صيغ رياضية تجرى على أجهزة الكمبيوتر، وتقوم بتحليل كميات هائلة من البيانات، تحدد الأنماط السائدة ضمنها، ما إن تطبق هذه الشبكة العصبية على مليون عبارة من اللغة الدارجة حتى تبدأ بالتعرف على الكلمات ودلالتها. ومع تقنية مثل هذه لم يعد المبرمج ملزما بتحديد المهام التي يتوجب على الكومبيوتر القيام بها؛ خطوة منطقية تليها خطوة منطقية أخرى كما جرت العادة.

ووفقا لمجلة ويرد، استطاع مؤسس شركة آبل ستيف جوبز، إقناع غروبر وشركائه ببيع سيري لشركة آبل عام 2010، مقابل 200 مليون دولار. وتقاعد غروبر من شركة آبل عام 2018، ليؤسس شركة تعنى بالذكاء الاصطناعي الإنساني، مهمتها مساعدة الشركات الأخرى على الاستفادة من تطبيقات الذكاء الآلي بهدف التعاون مع البشر، وليس بهدف ترويعهم أو استبدالهم والحلول محلهم.

وعلى عكس البعض من المتحمسين للذكاء الاصطناعي، أمثال مخترع تسلا، إيلون ماسك، وعالم البودكاست، سام هاريس، يعتقد غروبر أن الذكاء الاصطناعي يمكن ترويضه.

الوحش القاتل

اتصال لا ينقطع بالعالم الافتراضي
اتصال لا ينقطع بالعالم الافتراضي

حتى هذه اللحظة، شيء ما سار في التجربة العلمية على نحو خاطئ، رغم أن فرانكشتاين لم يتعمد مطلقا أن تكون نتائج تجاربه سيئة، أو أن يصبح الوحش قاتلا. لم يكن هدف زوكربيرغ من فيسبوك أن يحولنا إلى أعداء، أو أن يصبح شوكة مغروسة في حلقنا.

حجة غروبر في ذلك أن النتائج المترتبة على استخدام الذكاء الاصطناعي لم تكن مقصودة يوما، وكل من ساهم في تطوير تلك التكنولوجيا يستحق أن يمنح درجة “مقبول” لأنهم أصبحوا عباقرة شريرين. قد يكون البعض منهم شريرا.. ولكن دعونا نفترض حسن النوايا.

إلا أن افتراض حسن النوايا يصبح أمرا مثيرا للجدل، عندما يتعلق الأمر بزوكربيرغ، في شهر يوليو الماضي وافقت شركة فيسبوك على دفع غرامة قياسية بلغت 5 مليارات دولار، تسوية لرسوم لجنة التجارة الفيدرالية، وكونها أساءت استخدام المعلومات الشخصية لمستخدميها.

ومع ذلك لا بأس أن نتفق مع غروبر ونكون متفائلين، ونقبل فكرة أن نفس الخوارزميات التي تتغذى على عاداتنا السيئة، يمكن استخدامها لتنمية عاداتنا الحسنة أيضا.

عندما يتعلق الأمر بالأسباب التي تحد من مراقبة الشبكات، تجد شركات التقنية لنفسها العديد من الأعذار، معظمها تعتبر الكلفة الباهظة هي السبب في ذلك. حتى هذه اللحظة يتفوق العنصر البشري على الذكاء الاصطناعي في عملية الفرز بين الأكاذيب والحقائق، وكذلك في تمييز الأخبار التي تبث مشاعر الكراهية، إلا أن هذا يتطلب الاستعانة بأعداد كبيرة من البشر للقيام بالمهمة، وهو مكلف أيضا، وتفوق كلفته قدرة شركات التكنولوجيا التي تحاول الالتفاف على الأمر. ويشبه غروبر الأمر بأن يقول مصنعو السيارات إن إضافة الوسائد الهوائية، وهي عامل سلامة، مكلفة وتتسبب في إفلاس شركاتهم وتفقدهم أعمالهم، لذلك يجب ألا يفرض عليهم استخدامها. وهذا، كما يقول غروبر، محض هراء غير مقبول.

هذا ليس كل شيء، لماذا لا نطبق هذه التجارب على السلوك البشري لتحسين حياة الإنسان بدلا من تدميرها؟ لماذا لا نستخدم الذكاء الاصطناعي لتغيير العادات التي تؤدي إلى الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، وتلافي أمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم وحتى الانتحار؟

يعزو غروبر الأمر إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك القدرة بعد على التفريق بين العمل الخيّر والعمل الشرير. ولكن لا بد أن نصل يوما إلى مرحلة نستطيع فيها منح الذكاء الاصطناعي تلك القدرة على التمييز. وإلى أن تأتي تلك اللحظة يبقى أمر التمييز بين الخير والشر متروكا للبشر يقومون به.

حتى تلك اللحظة لن نكون سوى رعاة خائبين.

16