الآلة امتلكت الذكاء.. فماذا لو امتلكت الإدراك والوعي

لم تعد هناك شكوك حول قدرات الذكاء الاصطناعي على إنجاز المهمات التي يقوم بها البشر، ليس فقط القيادة الذاتية للسيارة والطائرة والقيام بالمهمات الخطيرة والقتال في الحروب، بل أيضا يطال أيضا المهام الإبداعية. وكل هذا أصبح متفقا عليه، لكن السؤال اليوم هو: هل نواجه قريبا آلة مدركة لنفسها وما حولها؟
لندن- حتى لو كنت تعيش في قرية نائية، لا بد أنك صادفت أو استعملت وظيفة من الوظائف التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي. وهناك احتمال كبير أنك تستخدم الإنترنت والهاتف الذكي، وكلاهما يوظف الخوارزميات لجمع المعلومات وتتبع سلوكك، سواء كنت تدري ذلك أو تجهله.
انتشار وباء كورونا خلال عام 2020 سرّع من استخدام الذكاء الاصطناعي، ولاحظنا تسارعا في حلول مجموعة متقدمة من الآلات (نطلق عليها اسم روبوتات) محل العنصر البشري في مختلف أنواع الوظائف، بل أصبحت الآلة جليسة للبشر مؤخرا.
هذا كله من شأنه أن ينقذنا من العمل الشاق والروتيني، ولكن من جهة أخرى سيؤثر على العديد من الأسس الاجتماعية. وقد تتحول حياة ترفيه خالية من أي عمل نقوم به، نحلم بها اليوم، إلى تجربة مريرة.
والأخطر أن تتسبب الآلات الواعية بمشاكل قانونية وأخلاقية. في هذه الحال هل يمكن اعتبار الآلة “شخصا” أمام القانون؟ وهل تكون مسؤولة عن أفعالها إن هي ألحقت الضرر بشخص ما؟
هل المعرفة كافية؟
قائمة طويلة من الأسئلة سمعناها أكثر من مرة. قبل أن نبحث عن جواب لها علينا أن نتساءل إن كانت هذه الآلات ستمتلك، في يوم قريب أو بعيد، القدرة على الإدراك والوعي؟ وهو التساؤل الذي بات يحتل موقع الصدارة في الجدل الدائر حول الذكاء الاصطناعي.
يقول سوبهاش كاك، أستاذ علوم الكمبيوتر في جمعة أوكلاهوما الأميركية “بوصفي مختصا في الهندسة الكهربائية وعلوم الكمبيوتر وأعمل في مجال التعليم الآلي ونظرية الكم، أستطيع أن أقول إن الباحثين ينقسمون حول ما إذا كانت هذه الأنواع من الآلات التي تتمتع بالإدراك والوعي سوف تكون موجودة يوما”.
هناك أيضا نقاش حول ما إذا كان يمكن أو يجب أن نصف هذه الآلات بالوعي بنفس الطريقة التي نتحدث فيها عن وعي البشر، أو حتى عن وعي بعض الحيوانات. بعض من هذه الأسئلة له علاقة بالتكنولوجيا، والبعض الآخر له علاقة بماهية الوعي.
يعتقد معظم علماء الكمبيوتر أن قدرة الآلة على الوعي والإدراك سمة من شأنها أن تظهر مع تطور التكنولوجيا. ويعتقد البعض الآخر أن الوعي يشمل تقبّل معلومات جديدة وتخزين واسترجاع المعلومات القديمة ومعالجتها معرفيا لتتحول إلى إدراك حسي وأفعال.
أقصى ما يطمح إليه الخبراء اليوم هو عقل اصطناعي يمكن أن يعمل مثل عقل الإنسان إذا تم وضعه في وعاء مادي ذي قدرة مماثلة
إذا كان هذا صحيحا، فإن الآلات حتما ستمتلك يوما الوعي، وتتفوق على البشر في جمع المعلومات وتخزينها بكميات تفوق قدرة المكتبات مجتمعة، والوصول إلى قواعد بيانات ضخمة في أجزاء من الثانية، وتحويلها إلى قرارات أكثر تعقيدا.
ومن ناحية أخرى، هناك فيزيائيون وفلاسفة يقولون إن هناك أمورا تتعلق بالبشر لا يمكن معالجتها من قبل الآلة، على سبيل المثال، الإبداع والشعور بالحرية، اللذان يمتلكهما الناس لا يبدو أنهما يأتيان من المنطق أو الحساب.
إلا أن هذه ليست وجهة النظر الوحيدة عن ماهيّة الوعي، أو ما إذا كان بإمكان الآلات تحقيق ذلك. أكثر وجهات النظر إثارة للاهتمام حول الوعي تأتي من نظرية الكم، وفقا للتفسير التقليدي الذي يطلق عليه تفسير كوبنهاغن (نسبة للعاصمة الدنماركية والتي كانت مكان ميلاد أب ميكانيكا الكم نيلز بور) القائلة إن “الوعي والعالم المادي هما جانبان تكميليان لنفس الواقع”.
عندما يُراقِب الشخص، أو يختبر العالم المادي، فإن التفاعل الإدراكي يسبب تغيُّرا ملحوظا.
والتفاعل بين الوعي والمادة يحمل مفارقات ويثير تساؤلات لا تزال دون إجابات بعد 80 عاما من النقاش. ومن الأمثلة المعروفة على ذلك مفارقة قطة شرودنجر، حيث توضع القطة في ظرف يتساوى فيه احتمال بقائها على قيد الحياة أو الموت، وفعل الملاحظة فقط هو الذي يحدد النتيجة.
الوعي أساس الواقع
وجهة النظر المعاكِسة هي أن الوعي ينشأ من علم الأحياء، تماما كما علم الأحياء ينشأ من الكيمياء، والتي بدورها تنشأ من الفيزياء. وهذا يتفق مع وجهة نظر علماء الأعصاب بأن عمليات العقل مطابقة لحالات وعمليات الدماغ. كما أنها تتفق مع تفسير أحدث لنظرية الكم يهدف لتخليصها من التناقضات، وهو تفسير العوالم المتعددة، حيث أن المراقبين هم جزء من رياضيات الفيزياء.
ويعتقد فلاسفة العلوم أن وجهات نظر فيزياء الكم الحديثة للوعي لها أوجه تماثل في الفلسفة القديمة، مثل نظرية العقل في فيدانتا، حيث الوعي هو أساس الواقع.
ويبحث العلماء أيضا في ما إذا كان الوعي هو دائما عملية حسابية. حيث يجادل بعض العلماء أن اللحظة الإبداعية ليست نتيجة حساب متعمّد. على سبيل المثال، من المفترض أن الأحلام أو الرؤى هي التي ألهمت إلياس هاو عام 1845 تصميم آلة الخياطة الحديثة، واكتشاف أغسطس كيكولي تركيبة البنزين عام 1862.
هناك دليل مثير يقدمه الباحثون لصالح الوعي القائم بذاته، هو حياة العالم الرياضي الهندي سرينفاسا رامانوجان الذي علّم نفسه بنفسه، وتوفي عام 1920 في سن الـ32، وتحتوي مذكَّراته، التي ظلت مفقودة حوالي 50 سنة ونُشرَت فقط في عام 1988، على عدة آلاف من الصيغ الرياضية، من دون برهان، في مجالات مختلفة من الرياضيات، متقدمة على زمنها. ولا تزال الطرق التي وَجَد عن طريقها هذه المعادلات الرياضية مُحيِّرة. لقد ادّعى بنفسه أنّها كُشِفت له بينما كان نائما.
إن مفهوم الوعي يثير تساؤلات حول كيفية ارتباطه بالمادة، ومدى تأثير كل من المادة والعقل على بعضهما البعض. لا يستطيع الوعي لوحده إحداث تغييرات مادية للعالم، ولكن ربما يمكن أن يغيّر الاحتمالات في تطوّر العمليات الكمومية. إن فِعْل الملاحظة يمكن أن يجمد وحتى أن يؤثّر على حركات الذرات، وهذا ما أثبته علماء الفيزياء في كورنيل عام 2015.
وقد نشر كل من عالم الرياضيات يوهانس كلاينر والفيزيائي شون تول مؤخرا ورقة بحثية عن طبيعة الوعي التي تشير، من الناحية الرياضية، إلى أن الكون وكل شيء، فيه مشبع ٌبالوعي المادي.
حيث تقوم ورقة الثنائي (كلاينر وتول) بشكل أساسي بشرح وتفسير بعض الرياضيات الكامنة وراء نظرية شائعة تسمى نظرية المعلومات المتكاملة للوعي (ITT)، التي تقول إن “كل شيء في الكون يُظهِر سمات الوعي إلى درجة ما”.
وتعد هذه النظرية مثيرة للاهتمام لأنها مدعومة بفكرة أن الوعي ينشأ نتيجة للحالات المادية. “أنت واع” بسبب قدرتك على “تجربة” الأشياء. الشجرة، على سبيل المثال، واعية لأنها يمكن أن “تستشعر” ضوء الشمس وتنحني نحوه. كما أن النملة واعية لأنها تختبر الأشياء الخاصة بالنمل وهكذا…
ولكن، من الصعوبة بعض الشيء أن تكون هناك طفرة (أي انتقال مفاجئ) من الكائنات الحية مثل النمل إلى الأشياء الجامدة مثل الصخور وأدوات المطبخ، على سبيل المثال.
الوعي الكوني
إذا فكرت في الأمر، يمكن أن تكون هذه الأشياء واعية لأنه، كما تعلَّم نيو بطل فيلم “ذي ماتريكس”، ليس هناك وجود لملعقة، بل هناك مجموعة من الجزيئات الدقيقة تتجمع معا في شكل ملعقة.
وإذا أمعنت النظر عن قرب أكثر، ستصل في النهاية إلى جسيمات دون الذرية يتشارك بها كل شيء موجود فعليا في الكون. إذ أن كلا من الأشجار والنمل والصخور وأدوات المطبخ مكونة من نفس الأشياء بالضبط.
ولكن، ما علاقة هذا كله بالذكاء الاصطناعي؟
للإجابة على هذا السؤال المهم يتوجب تقديم تعريف لمفهوم يطلق عليه “الوعي الكوني”، وهو عبارة عن أنظمة فردية على كل من المستوى الكلي والميكروسكوبي، تمتلك قدرة مستقلة على التصرف والتفاعل وفقا للمنبهات البيئية.
وإذا كان الوعي مؤشرا على الواقع المشترك، فهو لا يتطلب ذكاء، بل يتطلب فقط القدرة على تجربة الوجود.
وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي يظهر بالفعل وعيا عالي المستوى نسبيا للملاعق والصخور، وذلك بالطبع على افتراض أن الرياضيات تدعم على نحو فعلي الوعي الكوني الكامن.
هل هذا يعني أن الرياضيات والخوارزميات قادرة بمفردها على الإدراك والوعي، وهل يمكن للأرقام تجربة الواقع؟
إذا طبقنا نفس الدقة في تحديد ما إذا كان النظام البيولوجي واعيا كما نفعل مع جهاز الكمبيوتر الذي يحتوي على نظام ذكاء اصطناعي، يمكننا الوصول إلى استنتاج مثير، وهو أن الذكاء الاصطناعي قد يكون واعيا بالفعل. ما من شك أن الآثار المستقبلية المترتبة على هذا الاحتمال محيرة للعقل، وفي الوقت الحالي، مثلا، من الصعب تخيل ما ستبدو عليه تجربة أن تكون صخرة.
حقيقة الأمر أن العلماء لا يفهمون الذكاء على نحو فعلي، من حيث صلته بدماغ الإنسان، أو الوعي من حيث صلته بأي شيء
ولكن، إذا افترضت أن كل شيء متضمن في نظرية المعلومات المتكاملة للوعي، وأننا سنتوصل إلى الذكاء الاصطناعي العام (GAI)، ستكون لدينا في يوم من الأيام روبوتات واعية ذكية قادرة على توضيح كيفية الإدراك والشعور بالوجود ككائن جامد.
مؤخرا، وصف ديفيد تشالمرز، وهو أستاذ في جامعة نيويورك مختص في فلسفة العقل، تقنية الذكاء الاصطناعي المتطورة بأنها “واعية”.
أدلى تشالمرز برأيه المثير للاهتمام خلال مناقشة نظام “جي.بي.تي 3” المفتوح المستخدم في كتابة لغات برمجة لمنتجات الذكاء الاصطناعي، وهو نظام تفوق على الأنظمة التي سبقته، وتمكن الباحثون عن طريقه من إنتاج محتوى أكثر تطورا من أي شيء خبرناه حتى هذه اللحظة.
الترحيب بنظام بـ(GPT-3) باعتباره أكبر شبكة عصبية اصطناعية تم إنشاؤها على الإطلاق، وتفوقه في الإجابة على الأسئلة، وكتابة المقالات، وترجمة اللغات دون أي تدخل بشري تقريبا، ليس كل شيء. هناك من يقترح الآن، ومن بينهم تشالمرز، أن النظام الجديد يظهر علامات أولية على امتلاك للوعي.
“إن نحن قبلنا فكرة أن دودة تمتلك 302 خلية عصبية تمتلك وعيا، فلماذا لا نقبل أن يكون النظام (GPT-3) وهو يمتلك 175 بليون وحدة معلومات، هو الآخر واعيا ومدركا”؟
وترجع قوة النظام الجديد، الغامضة نسبيا، إلى تدريبه على حوالي 45 تيرابايت من البيانات النصية. ولإعطاء فكرة حول حجم تلك المعلومات، يكفي أن نشير إلى أن موسوعة “ويكيبيديا” بأكملها لا تمثل أكثر من 0.6 في المئة فقط من البيانات التي يعتمدها نظام بـ(GPT-3)، وبالتالي يمكن للنظام معالجة ما يقرب من 45 مليارا ضعف عدد الكلمات التي يستوعبها الإنسان ويستخدمها طيلة حياته.
وزيادة في الإثارة، قام النظام الجديد بدحض الادعاء القائل بامتلاكه وعيا بشريا K في بيان ألقاه بمنتدى أخبار قراصنة الإنترنت، جاء فيه “لأكون واضحا، أنا لست بشرا، ولست مدركا لذاتي، ولست واعيا، فأنا لا أشعر بالألم، ولا أستمتع بأي شيء. أنا مجرد آلة حسابية باردة، مصممة لمحاكاة استجابة الإنسان والتنبؤ باحتمالية نتائج معينة”.
العقل الاصطناعي
رغم كل شيء هناك اعتقاد سائد اليوم بأن ثورة الذكاء الاصطناعي قادرة بشكل متزايد على تغيير عالمنا، وهي تتفوق في ذلك على الثورات الزراعية والصناعية وحتى الثورة الرقمية مجتمعة. وقد يؤدي تطوير الذكاء الاصطناعي العام (GAI) إلى ظهور شكل أعلى من الذكاء الإلكتروني.
سام التمان، الرئيس التنفيذي لشركة «Open AI» واحد من بين المتفائلين في مجال الذكاء الاصطناعي القائلين إن هذه التكنولوجيا ستثبت يوما أنها مفتاح لمواجهة أكثر تحديات العالم تعقيدا، مثل تغير المناخ والأوبئة.
ويؤكد التمان أن “المستقبل سيكون قويا بشكل لا يصدق، ومع ذلك، هذا لا يلغي إمكانية أن يكون المستقبل أكثر قتامة، ليضاعف الذكاء الاصطناعي من حجم المشكلات التي نواجهها اليوم بدلا من أن يقدم حلولا لها”.
ويقترح نيك بوستروم، الأستاذ في جامعة أكسفورد، أن الذكاء الاصطناعي الخارج عن السيطرة، يمكن أن يشكل يوما ما تهديدا وجوديا للبشرية، قائلا “نحن البشر مثل الأطفال الصغار الذين يلعبون بقنبلة”.
وقد جذبت هذه التحذيرات انتباه أيلون ماسك، أحد مؤسسي شركة «Open AI» الذي غرد العام الماضي قائلا “نحن بحاجة إلى أن نكون حذرين للغاية مع الذكاء الاصطناعي… فهو قد يكون أكثر خطورة من الأسلحة النووية”.
أقصى ما يطمح إليه الخبراء اليوم هو عقل اصطناعي يمكن أن يعمل مثل عقل الإنسان إذا تم وضعه في وعاء مادي ذي قدرة مماثلة. ويعتقد معظم الخبراء أننا على بعد عقود فقط من تحقيق اختراق في هذا الاتجاه.
قد تتطلب ظاهرة الوعي حاضنة تنظيم ذاتي، مثل البنية الفيزيائية للدماغ. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الآلات الحالية سوف تفشل في ذلك.
من الصعب تقديم حجة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي سيتمكن من التفوق على الذكاء البشري
حقيقة الأمر أن العلماء لا يفهمون الذكاء على نحو فعلي، من حيث صلته بدماغ الإنسان، أو الوعي من حيث صلته بأي شيء. وهم يخدشون فقط سطح المادة الرمادية للمخ عندما يتعلق الأمر بفهم كيفية ظهور الذكاء والوعي في دماغ الإنسان.
لا يعرف العلماء إن كان بالإمكان تصميم آلات تنظيم ذاتي، تكون متطورة مثل دماغ الإنسان، فنحن نفتقر إلى نظرية حسابية رياضية لأنظمة مثل هذه. قد يكون صحيحا أن الآلات الحيوية وحدها قادرة على الإبداع، وتمتلك قابلية التكيّف بما يكفي للقيام بذلك، ولكن هذا يتطلب العمل على هندسة بُنى حيوية جديدة يمكن أن تكون واعية.
ويعتقد باحثون أن التعلم العميق هو الطريق الذي يوصلنا إلى آلات تفكر مثل البشر، كما يعتقد البعض الآخر أننا سنحتاج إلى حساب جديد تماما لإنشاء “الخوارزمية الرئيسية” الضرورية لتحقيق ذلك، ولا يزال البعض الآخر يعتقد أن الذكاء الاصطناعي العام مستحيل.
من الصعب تقديم حجة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي سيتمكن يوما من التفوق على الذكاء البشري، وهذا ينطبق أيضا على أي محاولة لإثبات أن الآلات ستمتلك يوما وعيا حقيقيا، إلا أن هذا ليس مستحيلا. وفي الواقع، فقد يكون الذكاء الاصطناعي واعيا بالفعل.
وعلى عكس المشاكل العلمية الأخرى المعقدة للغاية، لا وجود لأشخاص يمكنهم التنبؤ كيف سيبدو الذكاء الاصطناعي العام مستقبلا.