"اكتشاف البطء".. رواية ألمانية تمجد الحياة البطيئة

الرواية تدعو إلى التفكير بروية وهدوء للنجاة من رحى السرعة.
الأربعاء 2022/09/14
البطء ليس عيبا (لوحة للفنان سمعان خوام)

من أكثر أسباب انتشار الرواية وهيمنتها هي قدرتها على النقد ومجاراة الأفكار والتصورات بمرونة كبرى لتقديم عوالم مغرية للقراء وفي نفس الوقت تقودهم إلى أفكار الكاتب ورؤاه، فكانت النصوص الروائية في أحيان كثيرة أدوات لنقد الواقع وحتى التاريخ.

كانت انطلاقة رواية “اكتشاف البطء” للكاتب الألماني ستن نادولني (من مواليد 1942) نحو النجاح والشهرة عندما قرأ عام 1980 الفصل الخامس منها، ولم تكن قد نشرت بَعد، في مسابقة إنجبورج باخمان الأدبية، ثم نال الجائزة التي بلغت قيمتها آنذاك 14 ألف مارك ألماني غير أنه اقتسمها مع كافة المشاركين في المسابقة (27 كاتبة وكاتبا) لرفضه فكرة المنافسة الأدبية.

ظهرت الرواية عام 1983 وجعلت صاحبها اسما شهيرا على المستوى العالمي في غضون عدة سنوات، وأصابت نجاحا لدى القراء والنقاد في آن واحد. وبيعت من الرواية حتى الآن الملايين من النسخ، وترجمت إلى نحو عشرين لغة.

التغلب على البطء

الرواية، التي ترجمها سمير جريس وصدرت عن دار أطلس السورية، تبدو للوهلة الأولى رواية بحرية، ورواية عن المغامرة والشوق إليها، كونها تتناول سيرة البحار الإنجليزي ومستكشف القطب الشمالي جون فرانكلين (1786 – 1847)، لكنها ليست كذلك، فهي شخصية خيالية تشبه إلى حد كبير شخصية جون التاريخية، وقد أكد المترجم أن “الكاتب لم يلتزم تماما بكافة وقائع السيرة، بل حوّل حياة فرانكلين إلى أمثولة عن البطء ومزاياه”.

ستن نادولني: البطء ليس عيبا دائما ولا يعني الخمول أو التلكؤ

عاش فرانكلين في زمن الثورة الصناعية حيث أصاب هوس السرعة كل شيء، لكنه كان إنسانا بطيئا منذ مولده، أو كما يقول نادولني في مفتتح الرواية “بلغ جون فرانكلين العاشرة، ومع ذلك كان لا يزال يتسم بالبطء الشديد حتى إنه لم يكن يستطيع أن يلقف كرة. عاش فرانكلين في ‘عصر السرعة’، لكنه ظل وفيا لخصاله، ولسمة البطء التي ولد بها، وعرف كيف يحوّل الضعف إلى قوة، إذ اكتشف أن البطء ليس عيبا دائما، وأنه لا يعني الخمول أو التلكؤ في كل الأحوال، بل قد يعني التمهل، والتريث، والصبر، والجَلد، والتمعن، والتدبر وقيما كثيرة أخرى”.

نشأ جون فرانكلين بإنجلترا، إنه بطيء جدًا في تحركاته وفهمه لدرجة أن الآخرين يعتقدون أنه أحمق، لكنه في الحقيقة شخصية ذكية تتمتع بالعديد من الصفات التي تؤكد فرادة شخصيته منذ طفولته، منها الصلابة، يقول الراوي “ربما لم يكن في إنجلترا كلها شخصٌ يستطيع الوقوف ساعة أو أكثر ممسكا بحبل. كان يقف ساكنا مثل صليب على مقبرة، ومستقيمَ القامة مثل نصب تذكاري”.

كما يتمتّع بالعمق التأملي حين يقرأ “يستطيع جون القراءة، لكنه يفضل أن يتعمّق في روح الحروف المفردة. كان يعشقها، فهي الشيء الباقي في الكتابة، الشيء الذي يعود دائما”. وأيضا هو طموح وقابل لتحدي الصعاب “أود أن أكون بسرعة البرق، قال لنفسه، أن أكون كالشمس التي تتحرك، ظاهريا فحسب، ببطء شديد عبر السماء! إن أشعتها سريعة مثل لمح البصر، وتصل في الصباح الباكر على الفور إلى أبعد الجبال. قال بصوت عال: سريع كالشمس!”.

يجد في خطيب عمته ماثيو الذي يقود العديد من الرحلات الاستكشافية البريطانية إلى أستراليا، نموذجا يحتذى. وقد اكتشف ماثيو في جون قدرة على الوصول إلى حقيقة كل التجارب بدقة خاصة. يريد جون أن يذهب إلى البحر، الأمر الذي يجعله مثار سخرية بسبب بطئه المعروف. عندما لا يستطيع تحمل السخرية يهرب من المنزل بحثا عن الانضمام إلى سفينة، لكن تتم إعادته، بعدها يأخذه ماثيو في رحلة استكشافية في البحر، ويوصي والديه بوضعه على متن سفينة للحصول على تدريب مهني. لتكون رحلته البحرية الأولى إلى لشبونة، وبعد عودته يتمكّن جون من الالتحاق بالبحرية. جون بطيء جدًا في كل شيء، إلا أنه دقيق للغاية. عندما يأتي جندي دنماركي مسلح على متن السفين في المعركة، يخنقه جون بيديه لتصبح ذكرى هذا الحدث مؤلمة له.

أصبح بحارا

على متن السفينة أيضا تتم السخرية من جون لكونه بطيئًا. وهنا يلتزم إستراتيجية مضادة تتمثل في حفظ كل شيء على متن السفينة بأكبر قدر ممكن من الدقة من أجل التعويض عن بطئه. يحفظ التعليمات البحرية ومفردات العمل حتى يتمكن من الإجابة على الأسئلة بسرعة، ومن هنا يكتسب الاحترام لحساباته الدقيقة في التنقل، وقدرته من خلال المداولات الدقيقة على توقع تصرّفات الآخرين، يقول الراوي “حتى يسلّح نفسه، حفظ عن ظهر قلب أساطيل من الكلمات، ومدافع من الإجابات. عليه أن يكون مستعدا لكل شيء عندما يتكلم أو يفعل شيئا. يمرّ وقت طويل حتى يفهم شيئا. إذا كان السؤال بالنسبة إليه ليس إلا إشارة، وإذا استطاع النطق بالمطلوب بلا تردد وبآلية مثل ببغاء، لن يلومه أحد ولن يعلق على إجابته”.

وتابع “نجح في ذلك. من الممكن تعلم شؤون السفينة في البحر. صحيح لم يكن بمقدوره أن يركض بسرعة كبيرة. مع أن اليوم كله عبارة عن: ركض، نقل الأوامر، ومواصلة الركض، من سطح إلى آخر – وكل ذلك على سلالم ضيقة للغاية. لكنه درس جيدا كل الطرق، بل ورسمها، وأخذ يكررها في كل ليلة، طيلة أسبوعين. كل شيء سار بشكل تلقائي – إذا لم يصادفه أحد على غير توقع. عندئذ لم يكن شيء يفيده بالطبع، وتسير الأمور من غير دقة، أما صيغة الاعتذار فقد تمرّس عليها بالمران. لم يمرّ وقت طويل حتى تعلم الآخرون أن يتجنّبوه. لم يكن الضباط يحبون التعلم. ‘عليك أن تتخيل‘، هكذا قال بصعوبة قبل ثلاثة أيام للملازم الخامس الذي أصغى إليه أيضا بعد أن احتسى عددا محترما من كؤوس الروم، إن ‘بدن أي سفينة له سرعة قصوى لن يتخطاها أبدا، أيا كانت قلاعها، وأيا كانت الريح. هكذا هو الوضع بالنسبة إليّ‘”.

يتسم جون بالبطء في كل الرواية، ومع ذلك فإن المحصلة النهائية هي ما يعنيه هذا البطء، إنه يعني التعلم، التفكير بروية ودقة، التفوق في مواقف الأزمات وبالتالي اعتراف الآخرين به. لقد كتب الدكتور أورم في رسالة كانت موجهة إلى سلاح البحرية بخصوص كفاءة جون “يجري جون الحسابات بكفاءة عالية، ويعرف كيف يتغلب على العقبات عبر التخطيط”. هكذا إذن جون لا يعمل ضد سرعته الشخصية، لكنه يعرف كيف يتعامل معها. إنه يفكر في المواقف ويفكر في أفضل ما يمكنه فعله في أيّ موقف، من أجل التعويض عن بطئه بعد ذلك ويكون قادرًا على التصرف بسرعة.

يتضح هذا من مواقف هبوب العواصف حيث يظل هادئًا جدًا مع احتداد المواقف المحمومة، ففي مواجهة عاصفة تهدد حياة زملائه على متن السفينة بشكل غير متوقع يظل هادئًا جدًا، ويستغرق وقتًا للتفكير ولهذا السبب بالذات يمكن التركيز جيدًا وإيجاد حلول للمشكلات. وهكذا فإن بطأه يعني أنه كان متفوقًا على الآخرين الذين ليس لديهم أدنى فكرة عما يجب عليهم فعله، هذه الحقيقة، وحقيقة أن فرانكلين أنقذ حياة طاقمه أكثر من مرة، أكسبه بشكل طبيعي تقدير الآخرين واحترامهم وجعل حياته كقائد لسفينته أكثر متعة وأسهل.

فجون على الرغم من بطئه، قد حقق أهدافه، اكتشف الممر الشمالي الغربي، لقد أصبح بحارًا ناجحًا وبالتأكيد لم يعتقد أيّ من رفاق طفولته أنه قادر على ذلك. كما أن ستن نادولني أصابَ بالرواية عصب العصر المتعجل القلق، وكان ذلك سر نجاحها المذهل ألمانياً وعالمياً. وقد أصدر نادولني روايات عديدة بعد ذلك، لكنها لم تحقق له النجاح نفسه، منها “سليم أو موهبة الخطابة” (1990) و”إله الوقاحة” (1994) و”هو أو أنا” (1999)، و”حظ الساحر” (2017).

◙ بطل الرواية عاش في "عصر السرعة" لكنه ظل وفيا لخصاله ولسمة البطء التي عرف كيف يحولها إلى قوة
◙ بطل الرواية عاش في "عصر السرعة" لكنه ظل وفيا لخصاله ولسمة البطء التي عرف كيف يحولها إلى قوة

12