اقتصاد لبنان في خطر: السياسيون يوافقون شفهيا على الإصلاح لشراء الوقت

أمام حالة الانقسام والخلافات المستمرة، بات لبنان في حاجة إلى عقد اجتماعي وطني موحد يحد من معاناته الناتجة عن انتزاع غنائمه المركزية الضعيفة لصالح كل طائفة أو حزب سياسي.
الجمعة 2019/06/07
أبواب الإصلاح لا تجد من يفتحها

يجد لبنان نفسه في مواجهة أزمة اقتصادية بتداعياتها الاجتماعية والسياسية الخطيرة، نتيجة لمزيج يجمع بين الإعانات غير المستدامة، والبطالة في صفوف الشباب وتدفق اللاجئين وآثار الحرب في سوريا وشروط المساعدات الخارجية. ويحذر خبراء في مركز ستراتفور للدراسات الأمنية والاستراتيجية من أن الوضع يزداد تعقيدا في ظل التصعيد الأميركي ضد إيران، والذي يأتي حزب الله كأحد أركانه.

بيروت- وافقت الحكومة اللبنانية المنهكة بالديون على مسودة ميزانية لخفض عجزها الضخم، بهدف تفادي أزمة مالية حذر خبراء من أنها سترهق لبنان المثقل بالأزمات، لكن الخطر ما زال قائما، فموافقة الحكومة على الميزانية المقترحة لم تتعدّ بعدها الشكلي إلى فرض التطبيق، كما أن هذه التطورات تأتي في خضم التصعيد الأميركي ضد إيران وحزب الله وتأثيرات ذلك على الاقتصاد اللبناني.

ويسلط تحليل أعدّه مركز ستراتفور للدراسات الأمنية والاستراتيجية الضوء على المخاطر التي تواجه لبنان. ويقدّر الساسة في بيروت ضرورة الإصلاح والتقشف للحفاظ على ميزانية البلاد واقتصادها الأوسع، لكن، وفق خبراء ستراتفور، يفتقر لبنان إلى وجود قائد قوي بما فيه الكفاية ليكون قادرا على فرض إجراءات تقشفية. ويرجح التقرير أن تخاطر الفصائل اللبنانية بدخول أزمة اقتصادية عوضا عن مواجهة أزمة سياسية. ويعني هذا أنها ستنتظر المساعدات الأجنبية التي ستضطر القوى التي ترغب في منع نشوب حروب أهلية أخرى إلى منحها.

عقد اجتماعي

على مرّ السنين، أنتجت السياسة التي جعلت الأحزاب الطائفية فاعلة في السياسة المحلية نظاما غير فعّال، يتأرجح دائما على حافة الفوضى. الآن، تجب على الجهات الفاعلة السياسية مواجهة تحدّ جديد، إذ أصبحت الأزمة الاقتصادية تلوح في الأفق.

وحتى لو تمكنت الفصائل السياسية في البلاد من الحفاظ على مصالحها مع تجنب الأزمة المالية في نفس الوقت، يمكن أن تعجز عن وقف خطط القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران.

منذ الانتخابات اللبنانية التي أجريت في مايو 2018، اتفقت الفصائل السياسية الكبرى في البلاد (تيار المستقبل بزعامة رئيس الحكومة سعد الحريري، والتيار الوطني الحر بقيادة وزير الخارجية جبران باسيل، والقوات اللبنانية التي يتزعمها سمير جعجع، وحركة أمل، وحزب الله) على أن الأوضاع المالية في البلاد غير مستقرّة لكنها لا تتفق على العديد من النقاط.

مركز ستراتفور: الفصائل اللبنانية المسرفة تراهن على احتمال إنقاذ الأطراف الأجنبية لاقتصاد بلادها
مركز ستراتفور: الفصائل اللبنانية المسرفة تراهن على احتمال إنقاذ الأطراف الأجنبية لاقتصاد بلادها

وأمام حالة الانقسام والخلافات المستمرة، بات لبنان في حاجة إلى عقد اجتماعي وطني موحد يحد من معاناته الناتجة عن انتزاع غنائمه المركزية الضعيفة لصالح كل طائفة أو حزب سياسي. على سبيل المثال، يسيطر حزب الله الآن على وزارة الصحة، مما يمكنه من استغلال مواردها لخدمته وإفادة أنصاره. وتبلغ نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان 152 بالمئة، كما يمكن أن تشمل العقوبات الأميركية على طهران القطاع المصرفي في لبنان وذلك بهدف الضغط على حزب الله.

 موافقة شفهية

لم تلتئم جروح الحرب الأهلية التي امتدت من 1975 إلى 1990. وتديم هذه الذكريات القريبة غياب الثقة بين أطراف المجتمع اللبناني، ويخشى جميع الأطراف تجاوز حدودهم وإشعال نيران العنف من جديد، خاصة وأن حزب الله لا يزال مسلحا، واستخدام أسلحته ضد لبنانيين آخرين في أحداث مايو 2008 التي بقيت نقطة سوداء في ذاكرة بيروت، ويشارك في صراعات خارج حدود لبنان أين مثّل قوة رئيسية في الحرب الأهلية السورية.

لا ينفي هذا إمكانيات فرض الإصلاحات. لكن، سيوافق السياسيون في لبنان شفهيا على الإصلاحات لشراء الوقت، وتتمثل حساباتهم الأساسية في أنهم يقبلون المخاطرة بتأجيج أزمة اقتصادية عوضا عن أزمة سياسية على أمل أن تتدخل القوى الخارجية (من فرنسا إلى الولايات المتحدة إلى دول الخليج) لدعم مواردهم المالية غير المستقرة. لكن، خبراء ستراتفور يحذرون من أن المواجهة الأميركية الإيرانية المتصاعدة أو أي صراع محتمل بين إسرائيل وحزب الله أو تراجع الجهات المانحة قد تهدم هذه الآمال.

لا يواجه لبنان نفس التهديدات التي تقيّد الأوضاع المالية في الأردن، أين تمثل مساعدات المانحين أساس الاستقرار الوطني. تتمتع بيروت باحتياطي مستقر (وإن تقلص) من النقد الأجنبي ونظام مصرفي مؤثر بفضل التحويلات المالية القادمة من الشتات اللبناني واستثمارات بلدان مثل تركيا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.

وحافظ ناتج البلاد المحلي الإجمالي على نمو قوي منذ الركود الاقتصادي الذي شهده العالم سنة 2008، على الرغم من أنه كان يعتمد على المساعدات والتحويلات. مع ذلك، تعاني البلاد من ارتفاع في معدل البطالة بين الشباب (17 بالمئة) ولم تسجل النسبة تحسنا يذكر منذ أزمة 2008 (كانت 7.67 بالمئة سنة 2008 لتصل إلى 6.69 بالمئة سنة 2018). كما تأثرت صادراتها بسبب الحرب في سوريا التي تمثّل شريكها التجاري الرئيسي السابق.

وتضرّ إعانات الغذاء والماء والكهرباء الضخمة بالبلاد في نهاية المطاف مع نمو الديون المخصصة لدعم هذه الامتيازات. (بلغ إجمالي خدمة الدين 70 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبنان سنة 2017). وأدى التهرب الضريبي وجيش “الموظفين الأشباح” الذين انتشروا في مختلف الوزارات الحكومية إلى استنزاف الميزانية.

ومع ذلك، تبقى هذه العيوب مفتاحا للحفاظ على شرعية الفصائل السياسية الرئيسية في لبنان. في مقابل الغنائم المستخرجة من خزائن البلاد، يبقى الناخبون موالين للأحزاب القائمة.

بالنظر إلى هذه الوضعية، أصبحت سيطرة حزب الله على وزارة الصحة أكثر أهمية بالنسبة للمجموعة، إذ تساعد المؤسسة في تعزيز موارد المنظمة المالية في وقت تضغط فيه العقوبات الأميركية على إيران التي تمثل راعيها الرئيسي.

في ذروة الأزمة السنة الماضية، استضافت فرنسا مؤتمر سيدر الذي قدم مساعدات بقيمة 11 مليار دولار. لكن، جاء تقديم المساعدات مرفقا بشروط تشمل إجراء إصلاحات هيكلية وقطاعية ضرورية لضمان الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وتطوير التشريعات التي تحكم عمل القطاع الخاص وتحديث إجراءات القطاع العام.

لكن، تضع هذا الشروط الفصائل السياسية في لبنان في موقف صعب، فمثلا يحمل حزب الله، الذي يوصف غالبا بأنه دولة داخل الدولة، سلاحا يمكّنه من فرض رأيه، خاصة في ظل التضييق الذي يواجهه بسبب العقوبات الأميركية.

الصراع الأميركي الإيراني

أنتجت السياسة التي جعلت الأحزاب الطائفية فاعلة في السياسة المحلية نظاما غير فعّال، يتأرجح دائما على حافة الفوضى
أنتجت السياسة التي جعلت الأحزاب الطائفية فاعلة في السياسة المحلية نظاما غير فعّال، يتأرجح دائما على حافة الفوضى

تتصاعد المواجهة الأميركية الإيرانية هذا الصيف، ويزيد احتمال اندلاع صراع بين حزب الله وإسرائيل. ويمثل هذا خطرا على حسابات بيروت. ويلفت تقرير ستراتفور إلى أن واشنطن سعت دائما إلى دق إسفين يفصل الشيعة في لبنان عن حزب الله، وقاومت رغبتها في تصعيد العقوبات التي قد تدفع المجتمع الشيعي إلى أحضان الجماعة المسلحة أو تهدم الاقتصاد الكلي في لبنان.

لكن، تشير الاستراتيجية الأميركية لمواجهة إيران إلى احتمال أن يأخذ شيعة لبنان، والبلد ككل، بذنب حزب الله حيث يمكن أن تمتد العقوبات التي تفرضها واشنطن إلى القطاع المصرفي اللبناني في محاولة للضغط على حزب الله. وبطبيعة الحال، قد تدمر هذه الخطوة قطاعا حساسا، مما يؤدي إلى تفاقم الوضع المالي بنسق أسرع.

وفي حال تحول الصراع الأميركي الإيراني إلى مواجهة عسكرية مباشرة، فمن من الممكن أن يؤدي ذلك إلى هروب المستثمرين، وقد يحاول حزب الله التدخل من خلال تهديد إسرائيل، ما يعني تفجير فوضى في الساحة السياسية اللبنانية.

ستجد الفصائل نفسها في موقف حرج يستحضر فيه حزب الله القومية اللبنانية ضد “المعتدين الأجانب” مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، مما يزيد من خطر الانتقام من الاقتصاد اللبناني، إن لم يصل الأمر إلى حد التدخل العسكري. وعندما يستقر الوضع من جديد، سيتعين على لبنان أن يتحمل تكاليف إعادة الإعمار التي من شأنها أن تزيد من مشاكله الاقتصادية.

ويلفت خبراء ستراتفور إلى أنه حتى لو لم يصل الصراع الأميركي الإيراني إلى هذا السيناريو، تبقى الأزمة قائمة، ما لم يجد الاقتصاد اللبناني مخرجا طويل الأمد وفعّالا. فلفترة طويلة، اعتمد لبنان على عمليات الإنقاذ للحفاظ على اقتصاده. لكن، يعني تعب المانحين ومكائد القوى التي تريد الاستفادة من لبنان كجزء من استراتيجياتها الإقليمية الأوسع أن هذه المساعدات لن تكون مفيدة كما كانت في الماضي.

6