اقتصاد المشاركة: تراجع التوظيف وصعود الرأسمالية الجماهيرية

أبوظبي – أدى انتشار الاندماجات الاقتصادية وصعود أهمية الابتكار والتطوير والمشروعات الناشئة في الاقتصاد العالمي إلى تغيّر ثوابت مركزية في التفاعلات الاقتصادية على مستوى العالم. لم تعد الملكية للأصول الثابتة المادية والبشرية مثل رأس المال والعمل من ضمن العناصر الرئيسية لدورة الإنتاج، وبات بمقدور الأفراد تشغيل مشروعات كاملة دون امتلاك الأصول اعتمادا على الأنماط غير التقليدية لاقتصاد المشاركة.
ويقول الباحث المتخصص في الاقتصاد آرون سنداراراجان، إن العالم يشهد بداية تغيير جذري في كيفية تنظيم النشاط الاقتصادي، حيث أن “الحشد” سيحل مكان الشركات في مركز الرأسمالية، ولهذا، فعندما ستقوم بشراء شيء ما أو استئجار سيارة لتقلك للمطار، أو حجز مكان في رحلة لقضاء عطلة، فقد تحصل عليها من سوق يتحكم به الأفراد وليست الشركات الكبيرة، وعندما تحصل على الدخل، فإن هذا الدخل قد يكون قادما من سيارتك أو ورشتك المنزلية، التي ستكون متصلة عبر شبكة الإنترنت بحشد من المستهلكين، وليس بشكل راتب يأتيك من صاحب العمل.
تبعا للتغيير الذي يتصوره سنداراراجان، ونقله ضمن تقرير صدر عن منتدى الاقتصاد العالمي، فإن الأكثرية الغالبة ستعمل في المستقبل لصالح نفسها، سواء كسائقين يتم طلبهم عبر تطبيق على الهاتف الذكي، ككتّاب يعملون لحسابهم، أو كأصحاب محلات، وعلى الرغم من أن بعض هذه الوظائف ليست جديدة، ولكن السهولة التي يمكن للأفراد من خلالها الاتصال بالأسواق الواسعة، والتي ستقدم مقابل هذه الخدمات، سيكون جديدا حتما.
وإذا كان هذا يبدو وكأنه عودة في الزمن لأكثر من قرن منذ التقدم في اقتصادات الحجم – العودة إلى عالم كان فيه الجميع عبارة عن أصاحب متاجر صغيرة – إلا أن سنداراراجان يقترح أننا يمكن أن نحصل على أمرين على حد سواء في العصر الرقمي: الملايين من المساهمين الصغار والحجم (السعة) الاقتصادي.
ويطرح سنداراراجان فكرته بشكل تفصيلي في كتابه المعنون “اقتصاد المشاركة: نهاية التوظيف وصعود الرأسمالية الجماعية”، والتي قدّمت عرضا له مريم محمود، الباحثة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ومقره أبوظبي. وفيه يشير إلى استفادة الرأسمالية الحديثة من بعض أنماط الإنتاج التي روّجت لها النظم الاشتراكيّة سابقًا لتقليل تكلفة الإنتاج وتعظيم عوائد المشروعات، بحيث يمكن للأفراد العاديين تنفيذ مشروعات ابتكارية دون امتلاك الأصول ذات التكلفة العالية.
الرأسمالية الحديثة تستفيد من بعض أنماط الإنتاج التي روّجت لها النظم الاشتراكية سابقا لتقليل تكلفة الإنتاج ورفع العائدات
اقتصاد المشاركة
يقصد بمفهوم اقتصاد المشاركة النظم الاقتصادية القائمة على التشارك في الأصول المادية والبشرية بين أكثر من مشروع لتقليل تكلفة الإنتاج وتمكين الأفراد من تنفيذ مشروعاتهم، واستغلال الطاقات المهدرة؛ حيث باتت مشروعات اقتصاد المشاركة تعتمد على الاستفادة من منصّات إلكترونية للتمويل الجماعي، ومواقع للحصول على خدمات العمل بصورة مؤقتة لتنفيذ مهام محددة دون تعاقدات طويلة الأمد، بالإضافة إلى إسناد مهام التوزيع والاتجار والتسويق لشركات أخرى، بحيث يركّز المشروع فقط على مهام الإنتاج للسلع والخدمات وضبط جودة المنتجات.
وظهر مفهوم اقتصاد المشاركة ضمن التحوّلات التي شهدها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي تصدرها محاولة تقليل إهدار الموارد واستنزاف الأصول الاقتصادية ومكافحة الاحتكار، وهو ما دفع البعض من الاقتصاديين لطرح أفكار غير تقليدية حول أهمية التشارك في الأصول الاقتصادية، مثل العمل ورأس المال، وأعقب ذلك انتشار منصات إلكترونية عالمية للتشارك في الموارد والتمويل الجماعي.
ويرتبط ذلك بالتحوّلات العالمية من الاعتماد على الأصول الثقيلة إلى الأصول الخفيفة، فبدلا من أشرطة التسجيلات أصبحت هناك خدمات الموسيقى المتدفقة عبر الإنترنت، وبجانب صفوف العاملين بدوام كامل في مقرّات ومراكز رئيسية أصبح هناك سوق العمل الحر عبر الإنترنت. بالإضافة إلى ظهور منصّات مثل ليفت وأوبر التي تربط السائقين وأصحاب السيارات والراغبين في الانتقال لمسافات صغيرة بمقابل مادي، والمنصات الخاصة بشراء المنتجات وتوصيلها، ومنصات أداء الأعمال المنزلية وغيرها، مما يساعد في التشارك في استخدام الأصول، ويتيح للأفراد العمل في أكثر من وظيفة.
وتساعد التكنولوجيا في انتشار هذه النوعية من الأعمال، أو ما يُطلق عليه اقتصاد المشاركة، فالتكنولوجيا تُساعد المنتجين في التعرف على رغبات الأفراد، وتلقي ملاحظاتهم على المنتجات بشكل فوري مما يساعد في تحسين عملية التغذية العكسية.
كما أن الأفراد، في الكثير من الأحيان، يتجهون لإنتاج ما يحتاجونه ويقومون بعرضه على شبكة الإنترنت، فالكثير من المنتجات الرقمية الجديدة المبتكرة الهامة (مثل الهواتف الذكية، والكمبيوترات اللوحية، ومنصات التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب، وفيسبوك، وتطبيقات خرائط غوغل) طوّرها المستهلكون واستخدمها بعد ذلك رجال الأعمال والحكومات وليس العكس. ويشير مفهوم أسبقية المستهلك في التكنولوجيا الرقمية إلى أن الأجهزة أو تطوير البرمجيات يجب أن تتماشى مع احتياجات الأفراد المستهلكين على حساب احتياجات الشركات والحكومات.
|
وفي المستقبل غير البعيد، ستتطور التكنولوجيا لتمهّد لانتشار اقتصاد المشاركة حيث سيؤدي التوسع في استخدام طائرات الدرونز في الأغراض السلمية في انخفاض تكلفة نقل المنتجات بين الأفراد. وستساعد الطباعة ثلاثية الأبعاد في انخفاض تكلفة التصنيع، حيث سيتم تبادل البيانات والنماذج بدلا من الأشياء المادية وستقل الحاجة إلى موزعي تجارة الجملة وتجار التجزئة التقليديين.
تتراوح ساعات عمل المشتغلين في البعض من المنصات الإلكترونية بالولايات المتحدة الأميركية بين 40 و50 ساعة عمل أسبوعيّا، ولذا أصبح قياس ما إذا كان الفرد عاملا أو عاطلا أكثر صعوبة، فأصبح على الباحثين إعادة النظر في التعريفات والقياسات التقليدية للتشغيل والبطالة، بيد أن هذه المرونة في التعاقدات أدت إلى تمكين الأفراد على المستوى الاقتصادي؛ حيث لا يستطيع جميع الراغبين في الحصول على وظيفة الالتزام بالعمل في وقت محدد يوميّا.
ويواجه العاملون في هذا المجال مشكلة تحديد الأجر؛ فقد قام الكاتب بإجراء تحليل لأجور الأفراد العاملين في اقتصاد المشاركة في منطقة خليج سان فرانسيسكو، واتضح من خلال هذا التحليل تفاوت معدّلات الأجور في سوق العمل الرقمي لبعض المهن مقارنة بمعدلات الأجر الوطنية.
وهناك عدد من العوامل التي تفسر تقاضي بعض العمال عند الطلب أجورا أعلى من غيرهم، ومنها مستويات الخبرة والموقع الجغرافي الفعلي الذي يتم طلب العمل فيه، وفي بعض الحالات يرتبط انخفاض معدلات الأجر بانخفاض جودة الخدمات المقدمة. من جانب آخر، فإن تقلبات العرض والطلب على مجموعة من التطبيقات تزيد من احتمالات عدم تعزيز المساواة الاجتماعية في المستقبل.
وهناك مشكلة تعرف باسم رقمنة الثقة. فعلى سبيل المثال إذا كان شخص ما بائعا جيدا على موقع أي باي فلا يمكنه نقل هذه السمعة أتوماتيكيّا عند الانتقال إلى موقع آخر، حيث سيضطر إلى إعادة بنائها من الصفر، وذلك على عكس التقدم للوظائف بشكل تقليدي، حيث يتم أخذ الخبرة في عين الاعتبار عند تعيين الشخص.
شبكات الأمان الافتراضي
أصبحت هناك حاجة ضرورية لبناء شبكات أمان اجتماعي جديدة للأفراد العاملين بهذه النوعية من الأعمال الحرة، بحيث تعمل هذه الشبكات لحماية حقوق الأفراد، وتضمن لهم حدا أدنى من الدخل، ومعاشا تقاعديا عند وصولهم إلى سن معيّنة. ويقترح آرون سنداراراجان أن تقوم الحكومات بالإشراف على صناديق التقاعد.
التكنولوجيا ستتطور لتمهّد لانتشار اقتصاد المشاركة حيث سيؤدي التوسع في استخدام طائرات الدرونز في الأغراض السلمية في انخفاض تكلفة نقل المنتجات بين الأفراد
ومن المرجَّح، كما كان الحال في الماضي، أن تعتمد حماية العمال في هذا المجال على ظهور أنواع جديدة من تحالفات العمال. ومن المحتمل أن ينشئ عمال المنصات نقابات عمالية جديدة تضع معايير خاصة بها، وتركِّّز على حماية مصالح العمال وتحقيق توازن السلطة بين مورّدي الخدمات والمنصّات.
وتُعتبر داروينية البيانات أحد المفاهيم المرتبطة بالمنصات الرقمية، وتشير إلى كيفية تقييم المورّدين والقوى العاملة في اقتصاد المشاركة. ويرى الكتاب أن هذه التقييمات الإلكترونية ستتحوّل لتصبح بمثابة خطابات توصية؛ حيث من الممكن أن تكون الخطوة المقبلة السماح لمورّدي الخدمات في السوق بأخذ بياناتهم (التقييمات والمراجعات والصور وقوائم الدخل وغيرها) في حالة تركهم العمل في منصة ما؛ مما قد يساهم في تمكين العمّال ومنحهم أداة تساعد في إعادة توظيفهم.
وتخلص الباحثة مريم محمود في قراءتها لنظرية آرون سنداراراجان حول اقتصاد المشاركة إلى أن هناك عالمين محتملين لمستقبل العمل في ظل اقتصاد المشاركة، أحدهما مثالي لمنظمين متمكنين يحددون عدد ساعات عملهم ودخلهم تبعا لرغباتهم، ويحققون أقصى استفادة ممكنة من الأصول المملوكة لهم، والآخر لطبقة عاملة روتينية بدخول متقلبة ومحرومة من الحقوق والأمان الاجتماعي. وعلى الرغم من أن كلا العالمين المستقبليين غير حتميين، إلا أن الاستعداد للتصدي لعدد من القضايا بما في ذلك إعادة تصنيف العمل، وتمويل شبكات الأمان الاجتماعي، وإنشاء هياكل ملكية جديدة سيحدد أيهما سيكون سائدا في المستقبل.