استقالة تربك قيس سعيد دون إضعافه

استقالة نادية عكاشة جاءت لتظهر أن قيس سعيد الذي يظهر قويا ويرد على اتهامات خصومه ويكشف تفاصيل خططهم للتونسيين هو نفسه من يحكم ومن يقرر وينفذ.
الخميس 2022/01/27
مناورة دق الإسفين بين سعيد وعكاشة

لم يكن أكبر خصوم مديرة ديوان الرئيس التونسي نادية عكاشة يتوقعون استقالتها في الظرف الذي يتعرض فيه قيس سعيد لضغوط مختلفة. فقد رسموا لها صورة المرأة الحديدية التي تمسك بمختلف الملفات وتدير اللعبة من وراء الستار، مستعيدين صورا قديمة من محيط الرئيسين الراحلين بورقيبة وبن علي.

الآن، وبعد أن استقالت عكاشة وحمل نص استقالتها كما جاء في صفحتها على فيسبوك اعترافا بأن هناك خلافات جوهرية مع الرئيس سعيد، اتضح بأن المرأة التي صنعوا من حولها هالة القوة والزعامة، ليست هي من تقود قصر قرطاج، ولا هي من تفكر وتتخذ القرار بدلا من سعيد.

وقالت عكاشة في تفسير استقالتها “لقد كان لي شرف العمل من أجل المصلحة العليا للوطن من موقعي بما توفّر لدي من جهد إلى جانب السيد رئيس الجمهورية. لكنني اليوم وأمام وجود اختلافات جوهرية في وجهات النظر المتعلقة بهذه المصلحة الفضلى أرى من واجبي الانسحاب من منصبي”.

ومن المهم الإشارة إلى أن عكاشة، وإن كانت بررت استقالتها بخلافات جوهرية مع الرئيس سعيد، فهي بالنهاية سيدة لديها قدرة على التحمل خصوصا بعد أن قادت الحملات على قصر قرطاج إلى استهدافها ومحاولة النيل الشخصي منها والمس من حياتها الخاصة في ظل طبقة سياسية لا تفرق بين حدود النقد السياسي والمس من الحياة الشخصية للخصوم.

وتقول الاستقالة بوضوح، وبقطع النظر عن مبرراتها، إن سعيد هو صاحب القرار، وبقطع النظر إن كان هو على صواب أم مديرة ديوانه، فقد تنازلت هي وانسحبت وبقي هو لكونه الرئيس المنتخب والمسؤول عن إدارة قصر قرطاج والبلاد ككل سواء أكان يأخذ بأفكار مستشاريه أم لا يقبل، وسواء ساعدوه وفتحوا له طريق التحالفات وشبكات الدعم السياسي والإعلامي والمدني، أم كان كل ذلك فقاعة من الإشاعات صنعتها ماكنة حركة النهضة الإسلامية للإيهام بأن الرجل لا يقدر لوحده على اتخاذ قرارات مصيرية مثل ما حدث في الخامس والعشرين من يوليو، وأن هناك من يخطط وينفذ ويربط الخيوط ويفك العقد.

جاءت هذه الاستقالة لتظهر أن الرجل، الذي يظهر قويا ويرد على اتهامات خصومه ويكشف تفاصيل خططهم بشكل مباشر في كلمات موجهة إلى التونسيين، هو نفسه من يحكم، ومن يقرر وينفذ، وأن معاونيه مهما كانت قيمتهم ووزنهم يظلون مجرد مستشارين يعرضون أفكارهم وهو يختار ما يريد ويرفض ما لا يتماشى مع تقديراته وحساباته ورؤيته لما يجري.

لا تعني استقالة عكاشة أن الرئيس سعيد يمكن أن يتراجع أو يقدم تنازلات للنهضة بالرغم من سيل الإشاعات التي تحاول أن تقدمها في صورة المرأة الشريرة التي كانت تتخذ القرارات الخلافية

من الواضح أن الاستقالة ستربك الرئيس سعيد لكنها لن تقود إلى إضعافه أو دفعه إلى قرارات متعارضة مع ما يقوم به حاليا خاصة في العلاقة مع خصومه ومساعي تفكيك المنظومة السابقة وإماطة اللثام عن تحالف السياسيين مع لوبيات الفساد، وهي نقطة الصراع المحورية والتي جمعت سعيد بمستشاريه.

ليس هناك خلاف حول المبادئ التي قادت سعيد إلى الواجهة شعبيا وسياسيا، لكن الخلاف يكمن في الأداء وإدارة الحوار مع محيطه، فهو رجل يعتد بنفسه ويرفض تغيير مواقفه والتنازل عنها سواء أكان في مواجهة الخصوم أو المعاونين.

ويمكن اعتبار أن استقالة عكاشة هنا هي رسالة إنذار صريحة من الحلقة المحيطة بالرئيس بأن عليه أن يستمع إليهم أكثر حتى وإن ناقضت مواقفهم وأفكارهم الاستنتاجات التي لديه بشأن الملفات اليومية، خاصة أن القرار في الأخير سيعود له، وهو من سيتحمل مسؤوليته سياسيا وشعبيا.

إن الطبع الحامي قد يدفع إلى خسارة بعض الأصدقاء والمعاونين على أهميتهم، لكنه لا يمكن أن يؤدي إلى تغيير المواقف. كما أن الرئيس نفسه لا يمكنه أن يلقي بمسؤولية الأخطاء التي قد تكون قد وقعت في الماضي على كاهل معاونيه، فهم بالنهاية يلعبون دورا استشاريا.

لا تعني استقالة عكاشة أن الرئيس سعيد يمكن أن يتراجع أو يقدم تنازلات للنهضة بالرغم من سيل الإشاعات التي تحاول أن تقدمها في صورة المرأة الشريرة التي كانت تتخذ القرارات الخلافية، من نوع أنها هي من طلبت وضع رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان المجمد راشد الغنوشي في الإقامة الجبرية لكن سعيد رفض كما جاء على لسان أحد قادة النهضة.

إن هذا الإيحاء، وإن كان الهدف منه وفق خطاب الخصوم تقديم سُلّم للرئيس سعيد للنزول إلى الأرض والتراجع عن التصعيد مع حركة النهضة بزعم أنها قرارات عكاشة، فهو يحقق نتائج سلبية على صورة سعيد، فأي تراجع عن المواقف ولو من باب التكتيك أو المناورة سيتم الترويج له على أنه تخلص من ميراث عكاشة وفيه اتهام خفي لرئيس تونس بأنه لم يكن الحاكم الفعلي وأنه ينفذ أوامر للتصعيد تأتي من جهات ظل ودوائر نفوذ، وهي السردية التي دأب الإسلاميون على الترويج لها.

مناورة دق الإسفين بين سعيد وعكاشة حيلة ذكية من حركة النهضة لتحويل الصراع من مجاله الحالي بينها وبين منظومة الرئيس سعيد ونقله إلى ملعب آخر داخل قصر قرطاج بين سعيد ومحيطه، ما يخفف عنها الضغط سياسيا وشعبيا ويعطي مبررا لخطابها لدى الدوائر الخارجية التي تنظر إلى ما يجري في تونس بقلق بسبب المرحلة الانتقالية التي تعيشها.

وبالتوازي مع ذلك تحاول حركة النهضة إعادة رئيسها إلى الواجهة بعد أن ظل لأشهر على الهامش بسبب رفض سعيد فتح قنوات التواصل معه واعتبارها جزءا من الأزمة. وقد أعلن الغنوشي أنه ينوي رئاسة جلسة افتراضية لمجلس نواب الشعب في ذكرى المصادقة على الدستور، في محاولة استثمار الإرباك الموجود في رئاسة الجمهورية وتمرير عودة البرلمان وشرعية الغنوشي.

واعتبر النائب المجمد زهير المغزاوي أن “الغنوشي، المتسبب في كل الأزمات التي تعرفها تونس حاليا، غير مقتنع بأن زمنه انتهى”، مضيفا “هذه الدعوة هي محاولة بائسة من الغنوشي ليقول للعالم قبل التونسيين إنه مازال رئيسا للبرلمان ويسوق أن البرلمان مازال قائما”.

8