استفحال ظاهرة التسول في الأردن عنوان لتلاشي الطبقة الوسطى

أدى التراجع الاقتصادي في الأردن خلال السنوات الأخيرة إلى انزلاق الكثير من أفراد الطبقة الوسطى إلى الطبقة الأفقر، ومع فشل الحكومات المتعاقبة في التنمية الاجتماعية والقيام بإصلاحات حقيقية، تتابع هذه الطبقة انهيارها.
عمان - تؤكد جمعيات حقوقية أردنية أن ارتفاع معدل الفقر في البلاد ونقص الخدمات والحماية الاجتماعية كلها عوامل تدفع العديد من الأسر إلى الزجّ بأطفالها في التسول من أجل توفير قوتها اليومي، وتعكس انهيار الطبقة الوسطى في المجتمع الأردني.
وذكرت الورقة المُتخصصة حول “ظاهرة تسول الأطفال في الأردن” التي صدرت عن جمعية “تمكين” للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان في يناير الماضي أنّ ارتفاع نسبة الفقر التي قُدرت بما يقارب 26 في المئة، ونقص الخدمات والحمايات الاجتماعية، دفعا العديد من الأسر إلى الزج بأطفالها في ممارسة التسول وإجبارهم على ذلك لتوفير مصدر دخل أساسي أو ثانوي.
التسول أصبح ظاهرة
يعتبر متابعون أن ظاهرة التسول التي ازدادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة ومنها التسول الإلكتروني، تعبر بشكل واضح عن تنامي الفقر وتراجع الطبقة الوسطى، رغم قلة الإحصاءات الرسمية التي تتناول هذا الوضع في الأردن كما غيره من الدول النامية.
ووفقا للأرقام الرسمية التي تعود إلى 2010، فإن نسبة الطبقة الوسطى من المجتمع تراجعت في العام نفسه (آخر إحصاءات رسمية) إلى نحو 29 في المئة، مقارنة بـ41 في المئة في العام 2008. ومنذ ذلك الوقت، لم يتم إعلان حجم الطبقة الوسطى في المجتمع.
وقالت الإستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية 2019 – 2025 إن هناك ما يقارب الـ1.4 مليون أردني ينتمون إلى الطبقة الوسطى، حيث يُقدر حجم هذه الطبقة بـ20 في المئة من الأردنيين، لكن خبراء يؤكدون أن هذه الطبقة تستمر بالاضمحلال مع مرور الوقت تحت ضغط سياسات الحكومات المتعاقبة القائمة على زيادة الإيرادات عبر التوسع في فرض الضرائب.
وكانت الإستراتيجية التي أطلقت في مايو 2019 قد اعتمدت في أرقامها على مسح دخل ونفقات الأسرة الذي نفذته دائرة الإحصاءات العامة سنة 2017 – 2018، حيث تم تقسيم الأسر الأردنية تقسيما “عشريا”، وهو تقسيم إلى مجموعات متساوية من حيث الأفراد وتم ترتيبهم حسب الاستهلاك من الأفقر إلى الأغنى.
ويعد من هم في العُشر الأول (10 في المئة) “الأفقر”، ويتم التسلسل إلى العشر العاشر ممّن هم الأغنى، حيث يعتمد التقسيم العشري الممثل للسكان الأردنيين والتعريف الرسمي للفقر على هذا الترتيب.
وبالاستناد إلى هذا الترتيب، فقد تم تحديد 15.7 في المئة من الأردنيين على أنهم فقراء بسبب تدني مستوى استهلاكهم من الاحتياجات الأساسية.
ويعني هذا أن “الفقراء هم كل من يقع في العشر الأول وبما يزيد على النصف في العشر الثاني، كما أن أولئك ممن يعيشون فوق خط الفقر مباشرة هم في العشر الثالث، والطبقة الوسطى في العشرين الخامس والسادس والأغنى العشر العاشر”. وعليه، فإن “الطبقة الفقيرة” و”المعرّضة للفقر” تساوي 40 في المئة من السكان الأردنيين، فيما تقدر الطبقة الوسطى بـ20 في المئة والطبقة الأغنى بـ40 في المئة.
وقال وزير تطوير القطاع العام الأسبق ماهر المدادحة إن الطبقة الوسطى هي عماد أي اقتصاد والمحرك الأساسي له، ومن واجب الدولة أن تدعم هذه الطبقة من خلال دعم البنية التحتية والنمو الاقتصادي للمحافظة عليها كنسبة أكبر من المجتمع.
وأضاف المدادحة أن دعم الطبقة الوسطى لا يكون إلا من خلال تحفيز النمو الاقتصادي الذي يؤدي إلى خلق وتوسع فرص العمل، وتنويع الدخل وتحسين المستوى المعيشي للأفراد.
وأجمع خبراء اقتصاد على أن الطبقة الوسطى لأي مجتمعٍ هي صمام أمان وتدل على تعافيه الاقتصادي والاجتماعي، فكلما زادت، كبُرَ حجم الاقتصاد ونما، وضُبط إيقاعه بمختلف المجالات. وقالوا إن جائحة فايروس كورونا أثرت سلبا على فئات هذه الطبقة من المجتمع التي تضم المهنيين والحرفيين وموظفي القطاع الخاص ممن هم في الإدارات المتوسطة والفنية، والقيادات الوسطى في القطاع العام، ومالكي العمل ووسائل الإنتاج الصغيرة.
اضمحلال مستمر
يعني اندثار تلك الطبقة أو اضمحلالها، تراجع الإنفاق والاستهلاك، وركود الأسواق، وانخفاض الحراك الاجتماعي والتجاري، وزيادة معدلات البطالة، وقلة المساواة، وتراجع المشاريع.
وقال أستاذ الاقتصاد في جامعة اليرموك قاسم الحموري إن انكماش الطبقة الوسطى يأتي بسبب عوامل عدة أولها التنمية غير المتوازنة، لافتا إلى أن الأردن كان يحقق معدلات نمو عالية ومقبولة ولم يكن تأثر هذا النمو ينعكس على جميع الطبقات بعدالة.
وأشار الحموري إلى النظام الضريبي، حيث أن “ضريبة المبيعات” تؤدي إلى زيادة التكاليف على الطبقات الأفقر دائما، فيما يكون تأثر الطبقات الأغنى أقل.
ومن جهة أخرى فإن التهرب من “ضريبة الدخل” أيضا له سلبيات، حيث الأصل أن يتم تحصيل ضرائب من الطبقات الأغنى لصالح الطبقة الأفقر.
وأضاف إلى عوامل اضمحلال الطبقة المتوسطة الفساد المالي والإداري، والتراجع الاقتصادي الذي أدى إلى انزلاق الكثير من أفراد الطبقة الوسطى إلى الطبقة الأفقر.
وأوضح أن هذه الطبقة بدأت بالاضمحلال منذ أعوام، وذاب كثير من أفرادها في الطبقة الفقيرة، وقد زادت آثار جائحة كورونا من هذا الاضمحلال. وأكد ضرورة المحافظة على هذه الطبقة التي تحافظ على توازن المجتمع واستقراره.
وتوقع البنك الدولي في تقرير أصدره في أكتوبر الماضي زيادة معدلات الفقر في الأردن على المدى القريب بنحو 11 نقطة مئوية، جراء انخفاض دخل الأسر من العمالة والتحويلات كصدمة اقتصادية لجائحة فايروس كورونا.
43
في المئة من دخل الموظفين موجه لسداد الديون، ما يعني التحاق هذه الفئة بالطبقة الأفقر
وأشار أستاذ علم الاجتماع حسين خزاعي إلى مخاطر اضمحلال الطبقة الوسطى، حيث قال إن “الطبقة الوسطى هي طبقة الأمن والأمان لأي مجتمع، واضمحلالها يعني صراعا بين الطبقات، وبالتالي زيادة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية”.
ونوه الخزاعي إلى أن فئة الموظفين الحكوميين هي الأكثر تهديدا من الانزلاق من الطبقة الوسطى إلى الفقيرة، حيث إن 43 في المئة من دخل الموظفين الحكوميين موجه لسداد الديون، وهذا مؤشر خطير على التحاق مثل هذه الفئة بالطبقة الأفقر.
كما أشار إلى أن 60 في المئة من العاملين في المملكة هم في القطاع الخاص، وأن حوالي 85 في المئة منهم يعملون لدى 5 في المئة من أصحاب العمل.
من جهته، قال مدير مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية السابق موسى شتيوي إن تصنيف الطبقة الوسطى في أي مجتمع تكتنفه عدة إشكاليات، لكن هناك إجماعا على أنها الطبقة الوسيطة بين رأس المال والعمال بحسب البعد الاقتصادي لتصنيف الطبقات.
وأضاف أن تلك الطبقة تعرف من خلال علاقتها بغيرها، فهي ليست البرجوازية المالكة وليست العاملة التي تتقاضى أجورا، لافتاً إلى أنها تتمتع بدرجة معينة من الاستقلالية في عملها، وممارسة السلطة في هذا العمل، إضافة إلى أن دخولها المادية مرتفعة مقارنة مع العمال.
وتشمل الطبقة الوسطى في الأردن فئات القيادات الوسطى في القطاع العام، وموظفي القطاع الخاص ممن هم في الإدارات المتوسطة والفنية، وأصحاب العمل ووسائل الإنتاج الصغيرة التي يصل عدد عمالها إلى 10.
وعن مميزات الطبقة الوسطى في الأردن، لفت شتيوي إلى أنها تتمتع باستقلالية جزئية، فهناك من يشرف عليها وقد تشرف على آخرين.
ويعطي حجم الطبقة الوسطى لأي مجتمع مؤشرا على حجم الاقتصاد ومدى نجاحه وتقدمه، وبحسب شتيوي “فكلما كبرت، قوي الاقتصاد وتعافى، وزادت المساواة، ما ينعكس على بقية طبقات المجتمع”.
وأكد أن جائحة كورونا أثرت على الطبقة الوسطى سلبا، خاصة من يعملون على نحو حر، والعاملين في القطاع الخاص، وأكثر ما يرهق فئات هذه الطبقة هو الإنفاق على التعليم والنقل، والسياسات الاقتصادية التقشفية، ما ضغَطها مادياً، ومنعها من سداد احتياجاتها الأساسية.
طبقة ضابطة
يتطلب الحفاظ على الطبقة الوسطى تحقيق معدلات نمو مرتفعة، وتعميم التنمية الاقتصادية على المجتمع ككل، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بما يزيد دخل فئات الطبقة.
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي حسام عايش أن الطبقة الوسطى هي الطبقة الضابطة لإيقاع المجتمعات، والمحركة للاقتصاد والثقافة والسياسة، وهي صمام أمان سلوك المجتمعات وإحدى علامات تطورها، كونها تمثل الطبقة العريضة بين الطبقتين الغنية والفقيرة، وتعبر عن القاسم المشترك الأعظم بينهما، مشيراً إلى أنها تمثل بين 60 إلى 70 في المئة من المجتمعات.
وتعد الطبقة الوسطى الأكثر إنفاقاً في المجتمعات، نظراً إلى حجمها الأكبر، فهي المحرك لعدد كبير من القطاعات الاقتصادية، إذ تؤثر مباشرةً على حجم الاقتصاد ونموه.
وبيّن أن أفراد وفئات هذه الطبقة يملكون خبرات ومعارف تسهم على نحو كبير في حل المشكلات الاقتصادية، وتجاوز التحديات، في حال تحققت طموحات هذه الفئات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
وتواجه الطبقة الوسطى في الأردن تحديات كبيرة، كونها الأكثر تأثراً بالإجراءات والقرارات على مختلف المستويات، إيجابياً وسلبياً على حدٍ سواء، ما تسبب باضمحلالها خلال السنوات الأخيرة، إذ انحدر كثير من فئات هذه الطبقة إلى الطبقة الفقيرة ومحدودة الدخل، ما أخل بتوازن المجتمع وحوّله إلى طبقة غنيّة قليلة العدد، وفقيرة أكبر عددا.
ظاهرة التسول التي ازدادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة ومنها التسول الإلكتروني، تعبر بشكل واضح عن تنامي الفقر
وحسب عايش، يعتبر اندثار الطبقة الوسطى في المجتمع تراجعا للإنفاق والاستهلاك، وركودا في الأسواق، وانخفاضا للحراك الاجتماعي والتجاري.
ويذهب معظم إجمالي الرواتب إلى فئات هذه الطبقة، وبالتالي فهي الأكثر تعاملاً مع البنوك، والأكثر حصولاً على قروض، والأكثر استهلاكاً لمتطلبات الحياة.
وأوضح أن جائحة كورونا أثرت على ما تبقى من هذه الطبقة، إذ بدأت تختبر مشاكل الفقر الكلي أو الجزئي، ما يعني تراجع الإيرادات الحكومة الضريبية، وتراجع القروض، وتراجع وتيرة الأداء الاقتصادي عموماً، وكل ذلك يعني انخفاض جودة وكفاءة مختلف الخدمات والصناعات، وزيادة البطالة.
ويسبب اندثار الطبقة الوسطى أو اضمحلالها العديد من المشاكل الاقتصادية، إذ يتراجع الاستهلاك، ويزداد الركود، وتتراجع نسبة المشاريع الريادية.
ويدعو خبراء اقتصاد الحكومة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وواسعة للحفاظ على استمراريتها، أبرزها إعادة النظر في النظام الضريبي.
وبيّن الخبير الاقتصادي وجدي مخامرة أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة كانت عامة ولم تخفف من مشاكل الطبقة الوسطى اقتصادياً، بل أجلت التزاماتها لوقت لاحق.
وأضاف أن أهم متطلبات الحفاظ على وجود الطبقة الوسطى في الأردن هو مساعدة فئاتها على سداد التزاماتها المترتبة عليها من خلال دعمها مباشرة لتسوية أمورها عبر صناديق متخصصة، لافتاً إلى أن استمرار الجائحة سيؤدي إلى انخفاض النسبة التي تشكلها هذه الطبقة.