استغلال رأسمالية المحاسيب في سوريا

واشنطن - أثار الإجراء الذي اتخذه النظام السوري مؤخرًا بمصادرته أصول 35 مُهرِّبًا مدانًا التساؤلات بشأن نوايا الرئيس بشار الأسد وإستراتيجيته الإقليمية. فإلى جانب العدد الكبير غير الاعتيادي للأشخاص المستهدفين في آنٍ واحد من هذا الإجراء، لفتت شخصيات الخاضعين للتحقيق وانتماءاتهم انتباه الجميع في دمشق وخارجها.
واحتل خبر المصادرة العناوين الرئيسية عندما ظهرت قائمة مُسرَّبة بالمشتبه بهم في وقت مبكر من هذا الشهر. فبالإضافة إلى عضو البرلمان مدلول عمر العزيز، ضمت حملة التفتيش العديد من قادة الميليشيات ذوي الصلات الوثيقة بالنظام وبحليفته إيران.
وجاء من بين هؤلاء قائد ميليشيا الدفاع الوطني فراس الجهام المعروف أيضًا بفراس العراقية، والقيادي الشهير في الفرقة الرابعة حسن الغضبان الذي يخضع لقيادة ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري.
ظاهريًّا تبدو المصادرات موقفًا حاسمًا ضد الأنشطة المالية غير المشروعة؛ فقد ذكرت الوثيقة المُسرَّبة أن المتهمين اُستهدِفوا لتورطهم في تهريب بضائع بقيمة ضخمة تبلغ 16.6 مليار ليرة سورية (حوالي مليوني دولار أميركي). ويمكن أن تتجاوز الغرامات المحتملة 100 مليار ليرة سورية، ما يوضح خطورة الجرم.
◙ تحقيق المكاسب الجيوسياسية ليس الدافع الوحيد لدى الأسد. فمنذ عام 2019 عمل النظام على ابتزاز أثرياء الحرب ورجال الأعمال الموالين لدفع فواتير الدولة
لكن تحت ذلك الجانب الظاهري يوجد دافع خفي للمصادرات. فبالإضافة إلى تأمين المكاسب السياسية الإقليمية، تبدو حركة الأسد جزءًا من إستراتيجية أكبر تستهدف استخلاص الأموال من محاسيب النظام الذين أهملوا التزاماتهم المالية.
ويدل توقيت مصادرات الأصول على رغبة النظام في دعم وضعه السياسي في المنطقة، لاسيما مع العراق. فكل الخمسة وثلاثين شخصًا المستهدفين من دير الزور، وهي محافظة تقع على الحدود السورية – العراقية وتشتهر بكونها مركزًا مهمًا لأنشطة التهريب، خاصة تهريب المخدرات. وتُعَد حركة المصادرات، التي جاءت بعد فترة قصيرة من زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى العراق، جزءًا من إجراءات النظام الاستباقية للتعامل مع تأمين الحدود وتهريب المخدرات.
واتخاذ موقف من هذه المسائل أمر مهم في علاقة الأسد بالعراق، لكنه مهم أيضًا في الوفاء بالمتطلبات الإقليمية لإعادة سوريا إلى حظيرة المجتمع العربي. فبعد اجتماع عُقِد لوزراء الخارجية العرب في عمّان خلال شهر مايو الماضي وافقت سوريا على التعاون مع العراق في مكافحة تجارة المخدرات.
لكن تحقيق المكاسب الجيوسياسية ليس الدافع الوحيد لدى الأسد. فمنذ عام 2019 عمل النظام على ابتزاز أثرياء الحرب ورجال الأعمال الموالين لدفع فواتير الدولة. ولئن كانت الجهتان الداعمتان الرئيسيتان للأسد، إيران وروسيا، قد ساعدتا النظام على الانتصار في الحرب، فإنهما لم تُقدِّما الدعم المالي الكافي لمساعدة سوريا على الخروج من أزمتها الاقتصادية الحالية. ونتيجة لذلك لجأ النظام إلى أساليب غير تقليدية على المدى القصير للحفاظ على اقتصاده.
فالكثير من كبار رجال الأعمال في سوريا، لاسيما مَن استمروا في العمل خلال الصراع الدائر، يمثلون ثروة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك من خلال علاقاتهم بالنظام. وبعد الانتصار في الحرب تشجّع الأسد على مطالبتهم بالمساعدة في تمويل إصلاح سوريا. وتمكّن مَن امتثلوا له من مواصلة أعمالهم كالمعتاد.
أما من رفضوا أو فشلوا في الامتثال فواجهوا عقوبات وتعرضوا لتهديدات لفظية أو إجراءات جزائية، مثل تجميد الأصول أو غرامات بتهمة التهرب الضريبي أو الفساد.
◙ الكثير من كبار رجال الأعمال في سوريا، لاسيما مَن استمروا في العمل خلال الصراع الدائر، يمثلون ثروة سواء وذلك من خلال علاقاتهم بالنظام
ومن الشخصيات البارزة التي تعرضت لعمليات ابتزاز مخزية رامي مخلوف، ابن خال الأسد، ومحمد حمشو ووسيم القطان. بيد أن أساليب الابتزاز هذه امتدت أيضًا إلى خارج دائرة الشخصيات رفيعة المستوى لتشمل أصحاب الأعمال وأثرياء الحرب من كل المستويات.
وفي حالات الاتهام بنشاط إجرامي، يتبع النظام نهجًا يثبت عدم اكتراثه بتنفيذ حكم القانون: فبدلًا من أن يواجه المتهمون تهديدًا بالسجن، يُطلَب منهم فقط دفع غرامات. وبعد امتثال أولئك المستهدفين، يعاودون عملهم عادةً كالمعتاد. وما حدث مؤخرًا ليس استثناءً؛ فمعظم الخمسة وثلاثين شخصًا المذكورة أسماؤهم في الوثيقة المُسرَّبة هرَّبوا بضائع وكميات من الزيوت ومخدرات بين سوريا والعراق على مدى أعوام، وسيواصلون على الأرجح فعل ذلك.
لا يبدو النظام مهتمًا حتى بحجز ثروة المُدعَى عليهم. ورغم أن الممارسة الشائعة هي استخدام أسماء أفراد الأُسر لحماية الأصول، لم يُستهدَف أيٌّ من هؤلاء المتهمين بهذه الطريقة، ما يشير إلى أن المصادرات كانت رسالة أكثر من كونها جهدًا خالصًا لوضع حد لأنشطة المتهمين غير المشروعة.
إنَّ الأحداث المتسارعة التي تشهدها سوريا ومحاولات نهوضها من سباتها ستكون بمثابة اختبار لحلفائها الإقليميين بطرق جديدة ومعقدة. وينبغي أن يحترز صانعو السياسات الذين يتعاملون مع الأسد من السياسات التي قد تبدو غير ضارة وينظروا إلى ما وراء المظهر الخارجي ليفهموا الدوافع الحقيقية التي تقف خلف ما يفعله النظام.