استعمار داعش الثقافي.. تدمير الآخر واجتثاث رموزه التراثية

انتهج تنظيم داعش الإرهابي العديد من الأساليب للترويج لأيديولوجيته وتوجهاته، ولتبرير أفعاله الوحشية في أكثر من بلد، وكان لها وقعها الكبير لدى كل المتابعين الذين رأى بعضهم أنها أساليب موغلة في الإجرام. وفي خضم هذه الجرائم، وقف العالم مصدوما حيال إقدام هذا التنظيم على تدمير الآثار في العراق وسوريا دون مراعاة للأهمية الثقافية والتاريخية لهذه الكنوز التي تمثل ذاكرة وشاهدا على تاريخ طويل.
الاثنين 2016/03/14
ستار أسود يحجب كل ما هو إنساني

في النزاع الدائر في الشرق الأوسط اليوم تسعى الأطراف المختلفة، العالمية والمحلية، دولا وجماعات، إلى اكتساب الشرعية لمواقفها وسياساتها من خلال لعبة “القوة الناعمة” التي ينطلق فيها كل طرف من منظومته القيمية والثقافية والأيديولوجية، وأيضا من توقعاته لما لدى الرأي العام الذي يستهدفه من مواقف وقناعات.

إيان موريس، أكاديمي بريطاني ومؤرخ وعالم آثار من مركز ستانفورد للآثار التابع لجامعة ستانفورد في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، يُقارِب مذبحة التاريخ والثقافة التي تعرضت لها الموارد الآثارية والتراث الإنساني في سوريا والعراق على يد تنظيم داعش، فيناقشها من زاوية سعي أطراف الصراع، وضمنها تنظيم داعش، إلى اكتساب القوة الناعمة وتوظيفها لصالحها في الصراع.

ففي ورقته “الصراع على القوة الناعمة في الشرق الأوسط”، يشير موريس إلى اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية لمدينة تدمر، وإقدامه على تفجير النصب القديمة وإعدام سكان محليين على مسرح المدينة العائد إلى العهد الروماني، من بينهم خالد الأسد البالغ من العمر 82 سنة، والذي شغل منصب مدير هيئة الآثار بمدينة تدمر طوال 40 سنة قبل أن يتقاعد في سنة 2003، إذ اعتقله ونكّل به مسلّحو التنظيم طوال أسابيع، معتقدين على نحو يدعو إلى السخرية بوجود كميات هائلة من الذهب المخبَّأ في المدينة وأنه يمكن لخالد إطلاعهم على مكانه. وإذْ لم يستطع إفادتهم بشيء جرّه آسروه إلى ميدان عام في 18 أغسطس 2015 وضربوا عنقه وعلّقوا جثّته من وسطها على إشارة مرور.

ويرى موريس أن اغتصاب تدمر كان أسوأ ما أقدم عليه تنظيم الدولة من بين سائر أفعاله الدنيئة، مؤكدا وجود غاية لتنظيم الدولة من جنونه. فشنُّ حرب على علم الآثار، هو من وجهة نظره، مجرّد أسلوب في صراع داعش من أجل امتلاك القوة الناعمة، ومقاتلوه يستخدمون هذا الأسلوب بوحشية ودهاء لتعزيز موقعهم وإضعاف موقف أعدائهم.

ما يميز داعش ليست وحشية اللعبة التي يمارسها ولكن مهارته في لعبها وهو ما يمكنه من زيادة عوائد عملياته التخريبية

تطور القوة الناعمة

من بعض الجوانب، لا يرى الباحث في أفعال التنظيم الإرهابي شيئا جديدا، فطالما تفطّن الغزاة لرمزية صبّ جام غضبهم على ماضي أعدائهم المهزومين، بتدميرها تارة وبأخذها جوائز تارة أخرى. ويتتبع الباحث تاريخ هذه الممارسة في العراق مثلا إلى الآلاف من السنين موضحا أن إحدى أشهر القطع الأثرية التي عُثر عليها في الشرق الأدنى رأس مصنوع من البرونز يرجَّح أنه يرمز إلى سرجون ملك أكاد (الذي يُنسَب إليه فضل بناء أول إمبراطورية حقيقية في بلاد ما بين النهرين في وقت قريب من سنة 230 قبل الميلاد)، فبعد احترام تمتّع به الأكاديون طوال ألفي عام تقريبا، نقل الغزاةُ الأشوريون الرأس إلى عاصمتهم في نينوى، ثم نهب الميديون والبابليون المدينة وفقؤوا عيني الرأس البرونزي الذي يرمز إلى سرجون، وقطعوا أذنيه وجدعوا أنفه.

بقي هذا السلوك معتادا طوال معظم حقب التاريخ، يستطرد الباحث، لكن عندما احتلّ البريطانيون العراق في سنة 1917، ثم في سنة 1941، وعندما كرّر الأميركيون ذلك في سنة 2003، لم ينغمسوا في نهب ترعاه الدولة ولا سوَّوا الزقورات والمساجد بالأرض. كما أعطت القوات الأميركية الجنود إرشادات شرحت طريقة تلافي إلحاق ضرر بالمواقع الأثرية. وكما نفهم من تحليل موريس لم يأتِ تصرّف بريطانيا والولايات المتّحدة مع الآثار بهذا الشكل المغاير تماماً لتصرّف الميديين والبابليين بفعل تباين حضاري “جوهراني” بين غرب “متحضر” وشرق “همجي”؛ لكنه يرجع، بحسب الباحث، إلى الفارق الزمني بين العصرين أو التجربتين الاستعماريتين. إذ يؤشر الباحث على تحول كبير طرأ على سلوك القوى الاستعمارية إزاء الآثار والموارد الثقافية للمستعمرات؛ ذلك أن طرقا جديدة حلّت إلى حدّ بعيد محلّ الطرق القديمة في التعامل مع آثار الأعداء في السنين الـ250 الماضية. استُخدمت هذه الأساليب الجديدة في أوروبا في القرن الثامن عشر، عندما اكتشف الملوك أن القوة الناعمة التي سيكسبونها إذا قدّموا أنفسهم في صفة ملوك مستنيرين تفوق ما سيكسبونه لو تصرّفوا بشراسة مثل الملك أتيلا الهوني. وفي هذا السياق، يُبيِّن موريس، أن غزو نابليون لمصر في سنة 1798 شكّل نقطة تحوّل، فمع أنه نقل إلى متحف اللوفر كنوزاً لا تُحصى، كتب علماؤه “وصف مصر” في إثني عشر مجلّدا خلت من الأخطاء الأكاديمية وبالكاد دمّروا شيئا.

وبعد التحرر من الاستعمار، ووفقا للباحث، جعلت أغلب الدول التراث الثقافي مسألة اعتزاز وطني وحظرت تصدير القطع الأثرية. وفي سنة 1970، حظرت منظمة اليونيسكو بيع القطع الأثرية أو شراءها ما لم يكن هناك برهان على أنها كانت في حوزة جامعي الآثار من القطاع الخاص قبل إقرار الاتفاقية. وبسبب ذلك، وجدت بريطانيا أن أعظم فتوحاتها الثقافية – أي منحوتات معبد بارثينون الرخامية التي نُقلت من معبد بارثينون الأثيني ونُصبت في المتحف البريطاني في سنة 1816 – يتحوّل باطّراد من مصدر اعتزاز إلى إحراج دولي. وفي الولايات المتّحدة، فرض قانون حماية أضرحة الأميركيين الأصليين واستردادها، الذي أُقرّ في سنة 1990، قيودا صارمة على قدرة علماء الآثار على دراسة مكتشفات قبور السكان الأصليين في الأراضي الفيدرالية أو القبلية، أو عرضها في المتاحف.

هولوكوست الآثار على يد داعش امتداد لتاريخ الامبريالية الثقافية

جماعة غير ليبرالية في زمن ليبرالي

ووفقا لمنطق الدراسة، فإن خسارة الحكومات الليبرالية على صعيد القوة الناعمة المتعلقة بحماية الآثار يقابلها ربح للجماعات غير الليبرالية على الصعيد ذاته. فتنظيم الدولة، غير مهتم بأن يكون عصريا أو ليبراليا، وهو ينظر إلى الشرعية من منظور مختلف تماما. هدفه المعلَن أن يكون عتيقاً وغير ليبرالي؛ وهذا يعني أن ولعه بتدمير الآثار والفتك بالآثاريين منطقي رغم ما يمثله من رجعية ووحشية. ولا ينفرد تنظيم الدولة بفهم هذا المنطق، إذْ هاجمت جماعة إسلامية أخرى معبد حتْشبْسوت في مدينة الأقصر بمصر في سنة 1997، وقتلت 62 من زوّاره. وفي سنة 2001، هدمت حركة طالبان الأفغانية تمثالَي بوذا في باميان اللذين يعود تاريخ بنائهما إلى القرن الخامس بعد الميلاد. وفي سنة 2006، دمّر ناشطون منتمون إلى تنظيم القاعدة بالعراق ضريح الإمام العسكري الشيعي في مدينة سامرّاء. ولا يقصر الباحث أمثلة تدمير الآثار على الإسلاميين فقط، فيذكر أن الحرس الأحمر التابع لماو دمّر ما لا يُحصى من معابد الكونفوشيين أثناء حملة الثورة الثقافية على “القدماء الأربعة” في ستينات القرن الماضي، وهدم غوغاء من الهندوس مسجد البابري في أيوديا بالهند سنة 1992. من هذه الأمثلة التخريبية التي ساقها الباحث لإسلاميين وغير إسلاميين يمكن القول إن المسألة ترتبط بتعريف الذات والانتقام من الآخر. تدمير تراث الآخر هو تأكيد للتناقض معه ومحاولة للتنكيل به وبوجوده.

ويوضح الباحث أن سعي الجماعات التي استهدفت الآثار في مختلف البلدان، كل بطريقتها الخاصة، كان للنأي بنفسها عن النظام الدولي الليبرالي. ويرى أن ما يميّز تنظيم الدولة ليست وحشية اللعبة التي يمارسها ولكن مهارته في لعبها وهو ما يمكّنه من زيادة عوائد عملياته التخريبية للثقافة إلى أقصى حدّ مع تقليل تكاليفها إلى أدنى حدّ. ويعتقد الباحث بوجود تداخل بين مفهوم “التراث” ومفهوم “الجاهلية” في الفكر الإسلامي مستدلا بوصف علماء مسلمين للعصر الذي سبق مولد النبي محمد في وقت قريب من سنة 570 ميلادي بأنه عصر الجاهلية. ثم عاد سيّد قطب، المنظّر البارز في حركة الإخوان المسلمين، وأحيا تلك العبارة في كتابه “معالم في الطريق” الصادر في سنة 1964 الذي جادل بأن كل ما هو جاهلي “شرّ وفاسد”، ودأب المتطرّفون السنّة على مدى السنين الخمسين الماضية على الربط بين تطبيق الشريعة والقضاء على بقايا الجاهلية. وهو منحى أيديولوجي يمثِّل لدى الباحث افتراقا جذريا عن الثقافة الإسلامية السائدة، ذلك أن العلماء العرب تفوّقوا على الأوروبيين في دراسة الفلسفة اليونانية بين القرنين الثامن والعاشر، هذا على صعيد التلاقح المعرفي والتسامح الثقافي، أما على الصعيد السياسي والاقتصادي “البراغماتي” فيرى الباحث أن السلطنة العثمانية، في القرن التاسع عشر، كانت سعيدة تماما بمبادلة الآثار اليونانية والبابلية بودّ الغربيين أو نقودهم. ويقول الباحث إن تنظيم الدولة “داعش” نفسه يجني عائدات من فرض ضرائب على القطع الأثرية المنهوبة من الأراضي الخاضعة لسيطرته، لكنه يختلف عن نظم إسلامية سابقة في تفطّنه إلى كون “القيمة الدعائية” لتدمير هذه الموارد المدَّخرة تفوق كثيرا أي مكسب مادي آخر احيانا.

شنُّ حرب على علم الآثار، هو مجرّد أسلوب في صراع داعش من أجل امتلاك القوة الناعمة، ومقاتلوه يستخدمون هذا الأسلوب بوحشية ودهاء لتعزيز موقعهم وإضعاف موقف أعدائهم

التناقض المرغوب

يذهب الباحث إلى أن العائد الكبير من تفجير المعابد وقتل علماء الآثار، يكمن في التناقض الصارخ الذي تُوجده هذه الأفعال بين تنظيم الدولة الإسلامية والحكّام المستبدّين العلمانيين الذين حكموا معظم بلاد العالم الإسلامي منذ خمسينات القرن الماضي الذين كان الكثير منهم متلهفا للظهور في مظهر العصري والشرعي، فاحتضنوا علمَ الآثار وتراث دولهم الذي يرجع إلى حقبة ما قبل الإسلام. ورغم اعتقاد الباحث بأن ثمة وجها محتملا آخر لتدمير الآثار، وهو أنه يوحّد أعداء تنظيم الدولة الإسلامية ضدّه، فإنه يرى أن ذلك يبقى في الحيز النظري. فمن الناحية العملية يزيد معسكر خصومه ارتباكا وعجزا، إذ ينقل موريس عن سالم زهران، وهو محلّل لبناني لديه روابط مع الحكومة السورية، قوله لوكالة رويترز إن حكومة بشار الأسد تتوقّع أن تُفضي ممارسات داعش التي شهدتها مدينة “تدمر” الأثرية إلى تعاون أكبر بين دمشق وواشنطن ضد تنظيم الدولة.

ويكمن الدهاء في سلوك تنظيم الدولة الإسلامية في تدمر ونينوى وأماكن أخرى، في نظر الباحث، في حقيقة أن الرد الغربي، بصرف النظر عن شكله، سينعكس مزيّة على تنظيم الدولة على الأرجح. ولا يزال الردّ المفضَّل لدى الغرب إلى الآن شجبا راقٍيا للبربرية الإسلامية. لكن حتى هذا الأسلوب يواجه قيودا؛ إذ يعتقد موريس أن ظهور الغربيين في صورة المهتمين بأطلال المعابد الرومانية في تدمر أكثر من اهتمامهم بالأطفال القتلى في غزّة، سيؤدي إلى نجاح تنظيم الدولة مرّة أخرى في الظهور بأنه أكثر استقامة من أعدائه. أما الخيار الآخر أمام الغرب، فهو اتّباع الاستراتيجية الليبرالية الكلاسيكية المتمثّلة في مقابلة التزمّت بالتسامح، بل والتشجيع على المزيد من المبادلات الثقافية وعروض المتاحف التي تعرض روائع الحضارة الإسلامية.

ويستنتج إيان موريس من كل هذه القصة أن شنّ هجمات على علماء الآثار والمواقع الأثرية أسلوب ماكر وفاعل في الصراع من أجل امتلاك القوة الناعمة في الشرق الأوسط، والثاني أنه لا يزال يتعيّن على الغرب ابتكار ردّ مناسب على هذا الأسلوبّ.

7