استدعاء معارض مصري إلى دائرة الضوء السياسي

تصعيد أحمد الطنطاوي يحقق هدف المعارضة وأمل الحكومة.
الأحد 2024/02/11
هل كان على الحكومة أن تلجأ إلى القضاء

حكم قضائي بالسجن مع تأجيل التنفيذ يعيد المعارض المصري أحمد الطنطاوي إلى الواجهة مع أنه شخصية نكرة ومحدودة الإمكانيات والتأثير، في خطوة بدا من خلالها أن السلطة هي من تسعى لإعادته إلى الضوء وتسويقه كرمز للتغيير.

تنتعش بعض الشخصيات المعارضة في مصر كلما تعرضت لقسوة من قبل السلطات، وتسعى نحو توظيف ما تعتبره انتقاما سياسيا في صورة قضائية لصالحها، كأنها تمثل تهديدا للنظام الحاكم لما تتمتع به من شعبية. وقد تكون هذه المسألة لها جوانب من الصواب إذا كان المستهدف له تأثير في المشهد السياسي، ولها أيضا جوانب من الخطأ إذا طوى النسيان الشخص بمجرد اختفائه دون أن يشعر به أحد.

أعادت إحدى المحاكم المصرية أخيرا المعارض أحمد الطنطاوي إلى دائرة الضوء السياسي، عندما حكمت عليه بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وغرامة 20 ألف جنيه (نحو 500 دولار)، ومنعه من الترشح للانتخابات النيابية لمدة خمس سنوات، في التهم الموجهة إليه بشأن تداول أوراق تخص انتخابات الرئاسية بلا إذن من السلطات.

اختفى الطنطاوي منذ إخفاقه في الحصول على التوكيلات اللازمة لترشحه في انتخابات الرئاسة المصرية التي أجريت في ديسمبر الماضي، وانحصرت الأخبار التي جرى تداولها في شقين، الأول استعداده لتأسيس حزب سياسي باسم “تيار الأمل”، والثاني زواجه سرا من مذيعة عملت في محطة بي بي سي.

◙ شعبية أحمد الطنطاوي زادت بسبب عدم وجود بديل مناسب يراه الشباب، وتعلقوا به ليصبح البديل المحتمل
◙ شعبية أحمد الطنطاوي زادت بسبب عدم وجود بديل مناسب يراه الشباب، وتعلقوا به ليصبح البديل المحتمل

لم يتحدث الكثيرون عن دوره كمعارض صعب المراس أو التفاف كتل شبابية حوله لاستكمال مسيرة ظهرت ملامح منها في جولاته للتجهيز لانتخابات الرئاسية، حيث بدا في نظر شريحة من الشباب رمزا للتغيير الذي يبحث عنه الكثيرون.

زادت شعبية الطنطاوي بسبب عدم وجود بديل مناسب يراه الشباب، وتعلقوا به ليصبح البديل المحتمل الذي يفتح الفضاء العام بعد أن ضاق هؤلاء من التضييق على مدار سنوات ماضية، وكان الدافع الرئيسي لعدد كبير ممن انحازوا إليه رفضا للواقع السياسي وملابساته أكثر منه حبا في أحمد الطنطاوي، والذي بدت تصريحاته بشأن القضايا الحرجة التي تواجهها البلاد غير مقنعة أو بمعنى أدق فضفاضة.

اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل أسابيع من انتخابات الرئاسة لتمنح الرئيس عبدالفتاح السيسي صكا سياسيا جديدا يصب في خانة التأييد الشعبي، ورفضا للطنطاوي وغيره من الوجوه المدنية، لأن المصريين تأكدوا في هذه اللحظة أن الأمن يسبق السياسة والتحديات التي تواجهها الدولة في حاجة إلى قائد عسكري.

انشغل المصريون بشؤونهم الأمنية التي لم تنسهم أزمتهم الاقتصادية، لكنهم نسوا تقريبا الطنطاوي وأحلامه الوردية في التأسيس لحياة سياسية يتسع فيها نطاق الحريات العامة، إلى أن جاء الحكم القضائي الأخير ليعيده إلى الواجهة، وذكّر الناس به وبقضيته المتعلقة بتزوير توكيلات، وبدا الجزء الخاص بحرمانه خمس سنوات من الترشح في انتخابات البرلمان الغرض منه قطع الطريق عليه، إذ كان برلمانيا مشاغبا سابقا.

وأدى الحكم وتداعياته السياسية إلى استدعاء الطنطاوي والنقمة على السلطات، فمهما كانت الجريمة التي ارتكبها الرجل ورفاقه (التزوير) سيظهر في صورة أن جهة ما قامت بتلفيقها له باعتباره معارضا، وهي صيغة يتم تداولها عند أيّ حكم ضد شخصية معارضة، وربما تتأكد بعد ذلك صحة التهمة والحكم أيضا، لكن المظلومية التي تنسجها المعارضة دائما تمنحها مصداقية أعلى من السلطات الرسمية.

قد يكون الحكم الذي صدر على الطنطاوي وملحقاته مفيدة للحكومة أيضا، وهو لغز يبدو محيرا للبعض خارج مصر، فوجود معارض مثل الطنطاوي أفضل من وجود معارض أكثر صرامة يأتي من المجهول، فهذا الشاب يملك الحلم وليس الكاريزما السياسية، وله توجه ناصري لا ينجذب له الكثيرون، بل على خلاف مع ناصريين آخرين، ومهما بلغت شعبيته في الشارع لن تهدد الرئيس السيسي، فالطروحات التي قدمها الشاب غير قادرة على فك ألغاز الأمن والاقتصاد والسياسة في مصر.

◙ إحدى المحاكم أعادت الطنطاوي إلى دائرة الضوء عندما حكمت عليه بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وغرامة 20 ألف جنيه

أن تظهر شخصية معارضة في حجم الطنطاوي، هذا أمر غير مزعج للسلطة، فالأمر المزعج الحقيقي أن يكون هناك فراغ يحرّض شخصيات أخرى على الاستفادة منه أو يدفعها للتفكير في سده، وقد يأتي هؤلاء أو أحدهم من سياق أشد حنكة من الطنطاوي، الذي تظل تحركاته مقيدة ولو حصل على براءة قضائية، فالقوانين المصرية حافلة بثغرات يمكن النفاذ منها، وثمة قدرة عالية لدى المهتمين بالقانون والعاملين به على تدوير أيّ شخص يعمل في المجال العام وحشره في قضايا تقوده إلى السجن.

تستطيع الحكومة أن تستفيد سياسيا من الحكم القضائي أكثر من أحمد الطنطاوي وإن سعى لتوظيفه بطريقة توحي بالانتقام منه، فقد وضعت السلطات المصرية سقفا لطموحه، وعندما سمحت له بالعودة من منفاه في بيروت وهو في أوج انتقاداته لها من الخارج كانت تعلم جيدا طبيعة شخصيته ولم تتعرض له بسوء مباشر.

صبّت بعض المضايقات التي تعرض لها الطنطاوي أثناء تجواله خلال حملة الدعاية الانتخابية في صالحه، وحصد تعاطفا وكأن الحكومة حركت آلتها الخفية لتعظيم حضوره بعد أن تأكدت من حاجتها لمعارض يعطي زخما للانتخابات الرئاسية، فالمرشحون الثلاثة الذين استعدوا لخوضها أمام السيسي لم يكن بينهم من يثير الشغف.

يمكن أن يصبح الطنطاوي عنصرا مهما في مصفوفة المعارضة المصرية، على غرار معلمه الأول حمدين صباحي المرشح الرئاسي الأسبق ومؤسس حزب تيار الكرامة الذي رأسه الطنطاوي ثم استقال منه، فصباحي الذي ظل رقما في المعارضة سنوات طويلة مكنته مرونته من التأقلم مع عادات نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك من دون أن يشكل تهديدا قويا للسلطة، فظاهرته صوتية أكثر منها عملية، ويبدو الطنطاوي قريبا من هذه المعادلة التي تحقق لصاحبها الحضور السياسي ولا تقلق السلطة.

الواضح أن هناك أصابع تسعى لصناعة ظاهرة الطنطاوي، وليس بالضرورة أن يحمل ذلك تشكيكا فيه وتوجهاته، فالطريقة التي يتم التعامل بها معه، صعودا وهبوطا، توحي بوجود تهيئة لصعوده على خشبة المسرح السياسي في مصر، والمناكفات والشد والجذب هي أدوات أو مساحيق لإضفاء قدر من المصداقية.

يكاد الطنطاوي يكون الشخصية المعارضة الأكثر حضورا في مصر، فغالبية القيادات اندثرت أو انزوت أو تحالفت مع الحكومة ففقدت تأثيرها وأبطلت الحاجة إليها في توقيتات معينة، ومن الضروري استحضار شاب بمواصفات محددة يصبح على مقاس المعارضة والسلطة معا، وكلاهما يعتقد أنه يلبّي طموحاته السياسية المطلوبة.

الواضح أن الطنطاوي أكثر الناس سعادة بالحكم الصادر بحقه، سواء ألغي في جولة قضائية تالية أو تم تنفيذه فعلا، فقد حصل على ما يعزز مكانته كمعارض ليس على وفاق مع السلطة، كما روّج البعض، فالحكم أداة لتنظيف ما علق من شوائب في ثوبه السياسي بعد عودته المفاجئة من لبنان وجعله طليقا في الشارع لبعض الوقت.

4