اختفاء الكشافة الصينيين

السلع مثل البشر، كلما كانت متينة وذات قيمة استطاعت مواجهة الزمن وتقلباته الصعبة.
الأربعاء 2023/12/27
لا يصح إلا الصحيح

يتذكر الكثير من المصريين منذ حوالي عقدين من الزمن كيف كانت أعداد كبيرة من الصينيين تطرق أبواب منازلهم لبيع أنواع مختلفة من البضاعة المصنوعة في الصين. اختفت الظاهرة عقب سقوط نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك مع موجة ثورات الربيع العربي، ولا أعلم هل هناك علاقة بين وجود الظاهرة والنظام واختفائها مع اختفائه أم لا؟ ولماذا سمح النظام لهؤلاء الباعة الجائلين بدخول بيوت الكثير من المصريين وشوارعهم وأزقتهم بجرأة وطيبة معا، أم تسللوا خلسة؟

لم أفهم المعنى أو المغزى من دأب الصينيين، وغالبيتهم من النساء، والإصرار على عرض بضاعتهم بثمن بخس، إلا منذ فترة قصيرة عندما ذكرني صديق بفرق الكشافة الصينية، هكذا يمكن وصفها، حيث كان الصينيون أشبه بجواسيس اقتصاديين يريدون معرفة السوق المصري واحتياجاته، فالصين وقتها كانت تريد معرفة احتياجات ومتطلبات الأسواق التي تريد التوسع فيها اقتصاديا، ووجدت أن أفضل طريقة لذلك التعامل مباشرة مع شرائح متنوعة من المصريين والتعرف على رغباتها عن كثب.

لم تكن مصر هي المستهدفة الوحيدة من هؤلاء، حيث جابت الفرق دولا عدة في المنطقة العربية، كنوع من استطلاع الرأي العام لما تحتاجه كل دولة من بضائعهم، والصفات المطلوب توافرها والثمن الممكن دفعه لدى الغالبية، وهي فكرة عملية فضلت بكين القيام بها مباشرة لقياس أمزجة الشعوب بدقة، ومواصفات السلع المرغوبة.

لفت نظري أن فرق الكشافة الصينية وضعت أياديها على جوهر الصفة المركزية لدى شريحة كبيرة من المصريين، وهم الفقراء الذين يمثلون نحو نصف عدد السكان، ووقتها كان العدد لم يصل بعد إلى مئة مليون نسمة، لكنه كان قريبا منه، خلص الصينيون سريعا إلى أن معظم المصريين يفضلون سلعا رخيصة الثمن، وهو ما جعل الصين تغرقنا بسلعها زهيدة الثمن، وأصبح المثل المصري لأي شيء لا يحتمل البقاء ومقاومة الزمن يطلق عليه تقليد أو صيني.

خسرت بكين كثيرا عندما استجابت لرغبات الشعوب بلا دراسة النتيجة التي يمكن أن تذهب إليها في المستقبل، باتت الصين الآن قوة جبارة اقتصاديا على مستوى العالم، لكن لا تزال سمعتها في مصر ملتصقة بأن كل شيء قابل للكسر أو التلف مصنوع في الصين.

يبدو أنها تيقنت من أن الاعتماد على الكشافة فقط كان خطأ جسيما، لأنهم استجابوا لما يريده الزبون ولم ينتبهوا إلى أنه لا يصح إلا الصحيح، فالسلع مثل البشر، كلما كانت متينة وذات قيمة استطاعت مواجهة الزمن وتقلباته الصعبة. ولذلك بدأت الآن تشق طريقها بمقاييس السوق المعتبرة وليس حسب أمزجة المصريين.

18