"احتضار الفَرَس".. رحلة تيه لا نهائية

بإمكان الرواية ترميم التاريخ والأمكنة من خلال استعادة تفاصيلها والوقوف على ما تغير فيها ودفع الناس إلى الوعي بها بشكل أكثر عمقا، وهذا ما وعاه الكثير من الروائيين السوريين المنوطة بهم مهمة صعبة لغاية في ترميم بلد دمرت معالمه وتفاصيله وبشره وأبنيته الحرب الطاحنة، ومن هؤلاء الروائي خليل صويلح في روايته “احتضار الفَرَس”.
“هذه البلاد طير حر أراد القناصون اصطياده كطريدة سهلة لا كباشق، فحدثت الفوضى بغياب العارفة”. ألف كيلومتر وإحدى وعشرين ساعة يقطعها راوي خليل صويلح ذهابا وإيابا في رحلته في الحافلة من دمشق إلى المنطقة الشرقية (الجزيرة) وبالعكس عبر الطريق البري دمشق – تدمر. في الرحلة يلتقي صائد طيور، ومرضى، وقطاع طرق.
في روايته الجديدة “احتضار الفَرَس” جعل الروائي السوري خليل صويلح الطريق بطلا دراميا، دفعه إلى مخاتلات فنية عديدة، ما بين فجيعة الحرب والإنسانية المسحوقة، يستهل روايته بصدر بيت شعري لأبي تمام “لا أنتَ أنتَ ولا الديار ديار”، وجاء هنا كعتبة ناجعة لروايته.
رحلة في سوريا
يمضي بنا صاحب “عزلة الحلزون” في طائرة شحن عسكرية (إليوشن) متهالكة، من دمشق إلى القامشلي، تذكر بما يحدث في شاحنة لنقل البهائم إلى المسلخ. حيث كانت النسوة المسافرات عبر إليوشن يتعرضن للتحرش الجنسي من الرجال المسافرين على متن الطائرة، حيث لا مقاعد للجلوس إنما الوقوف في صفوف متراصة، تنطلق الطائرة برفقة مرضى وجنود يرتدون ثياب ميليشيات مختلفة، وتوابيت موتى يجب أن تصل إلى مطار القامشلي، ومنها يذهب الراوي برفقة السائق الكردي جنكو إبراهيم برا نحو مسقط رأسه في ناحية الشدادي جنوب الحسكة، مارا بنا عبر القرى الطينية المتناثرة، والتلال المحيطة بها، والقرى الآشورية المدمرة على ضفاف نهر الخابور، والكنائس المهدمة، والتلال الآثرية المنهوبة.
الحدث المحوري في الرواية، لا يخرج عن إطار القصة المرسلة، فالصحافي يتلقى رسالة من شقيقه في القرية بموت والدتهما، التي لم يرها منذ سنوات تسع، أي منذ “الزلزال السوري” في عام 2011، حيث يعيش في دمشق، بينما تعيش أسرته شرق البلاد.
وفي رحلته الداخلية ذهابا بالطائرة من دمشق إلى القامشلي، ومنها برا في الحافلة، إلى الحسكة فقريته “الشمسانية”، يتحدث الروائي عن سوريا التي كانت ولم تعد، من خلال رصده لحكايات العابرين في رحلتَيه. أولئك المكتوون بنار الحرب التي لا تزال مستعرة في البلاد، وحكايات الجغرافيات التي تستمر في الأنين منذ سنوات، ويرصد الصحافي في “الشمسانية” أوضاع قريته بعد تسع سنوات على غيابه عنها، والتغيرات التي لحقت بها جراء الحرب، خاصة أنها من القرى التي خضعت لسيطرة “داعش” في وقت سابق.
بعد رحلة مضنية ودروب ترابية متعرجة وعواصف رملية، يصل الروائي قريته، لم تكن القرية التي يعرفها أيام الطفولة، بدت بضعة بيوت متناثرة مطلية بالكلس الأبيض، وزرائب وأشجار زيزفون، ودروبا متعرجة نحو حقول القطن، كما لو أنها قرية أشباح. توقفت التاكسي ذات اللون الأصفر قرب المقبرة عند الغروب، وصولا إلى مقبرة الأم، حيث لا شواهد للموتى هناك.
يقول الكاتب “كانت أمي ترقد بطمأنينة في حفرة على عمق متر فقط، بلا خاتمها الفضة في بنصر يدها اليسرى. في هذه المقبرة دفن أحد أبناء الجد الأكبر بعد أن عاد من غزوة خاسرة مجندلا فوق فَرَسه الشقراء، ودفنهما معا، متجاهلا تحذيرات الأولياء، إذ ماتت الفَرَس في الليلة ذاتها حزنا على خيالها. يذكر الرواة أن الفرَسَ ظلت تطلق صهيلا خافتا، ووقع حوافر، يسمعها العابرون قرب المقبرة ليلا”.
ويكتب صويلح في روايته، الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت، “كان أقصى ما حلم به الأب، ظهيرة ذلك اليوم من شهر أيلول/ سبتمبر 2020م، أن يصل جثمان ابنه كاملا من إحدى جبهات القتال، وأن يدفنه على عجل. فمنذ يومين بلغه الخبر المؤسف بمكالمة هاتفية مشوشة، تمنى ألا تخصه، وأن يكون الأمر مجرد تشابك خطوط. لكن توقعاته لم تصبْ على الإطلاق، فما أن انحدرت عربة الإسعاف نحو منزله أسفل تلة من أشجار الزيتون، حتى أدرك أن حادثة موت ابنه حقيقة دامغة”.
كانت الجثة بلا رأس، هذه الصورة الغرائبية لجثة الابن المشوهة، أثقلت كاهل الأب بالمزيد من الكوابيس على دماغه المتعب، لاعنا الحرب المجنونة التي خطفت ابنه على هذا النحو المفزع. كان الأب ينظر إلى تيس الماعز الذي أَمَرَ بذبحه قربانا لروح الغائب، بنوع من الحسرة، والألم الذي يصعب تعيينه، فحتى التيس يمتلك رأسا لحظة ذبحه، فكيف لابنه أن يكون بلا رأس.
صعد الأب نحو التلة، وأرخى جسده إلى جانب قبر ابنه، ومن ثم أغمض عينيه، ولم يستيقظ من غيبوبته ثانية. وكانت حادثة وصول جندي إلى بلدة مجاورة، وقد شقت خاصرته اليمنى بفتحة واضحة في الجلد، ليتبين لمغسل الموتى أنه فقد كليته بعملية مدبرة. انطوى ذلك على فضائح كبيرة عن مافيات مجهزة بمشاف ميدانية متطورة لسرقة الأعضاء وتصديرها إلى خارج البلاد؟ ستتواتر لاحقا، حكايات كثيرة متناقضة عن سرقة الأعضاء وبيعها بمبالغ ضخمة، تتفاوت بين مكان وآخر، وأن هناك من يبيع كليته أو خصيته للحصول على مبلغ يكفيه للهجرة خارج البلاد، وهناك من خطف للاستيلاء على قرنية عينه التي تباع بثمن يسيل له لعاب المافيات المنتشرة على طول الحدود الشمالية للبلاد.
أصبحت حركة السفر على طريق تدمر – دمشق، متوقفة، الطريق الذي كان يختزل المسافة إلى النصف ما قبل سنوات الحرب، مخترقا رمال الصحراء وخيم البدو الرحل وقوافل الجمال. الآن يسلك الراوي طريقا طويلا يبدأ من مدينة الحسكة باتجاه تل تدمر إلى تل أبيض وعين عيسى في ريف مدينة الرقة، ومرورا بعين العرب ومنبج، على الشريط الحدودي السوري – التركي، وعبورا بمدينة حلب نحو دمشق. إحدى وعشرون ساعة من الجحيم والخوف والريبة تخضع لأمزجة القائمين على “حواجز الصيد”، كما يطلق عليها سائقو الحافلات التي تعبرها، فكل ميليشيا على هذه الطريق لها كمائنها التي تتقاسم الغنائم بالكيلو متر.
الروائي يتحدّث عن سوريا التي كانت ولم تعد موجودة من خلال رصده لحكايات العابرين في رحلة راويه المضنية
“في تلك التضاريس الملتهبة بشمس تذيب الإسفلت تحت النعال التائهة نحو اللامكان، وعواصف الرمال التي تقتلع أوتاد الطمأنينة، تكتمل رحلة التيه اللانهائية في ‘مستعمرة العقوبات’، والطغيان، والهويات المغيبة قسرا، وجنة النهب، بجرعة عالية من العسف الحكومي؛ الجرعة التي كانت تتلف خلايا الكرامة البشرية في وضح النهار، بممارسات عدوانية صريحة من غرباء انقضوا على الوليمة الدسمة وتركو عظام الذل للكلاب”. وصولا إلى بلدة معرة النعمان. كانت الصورة التي داهمت الراوي على الفور هي تمثال أبي العلاء المعري، وقد جز التكفيريون عنقه بآلة قص الحجارة، فيما بقي جسده منتصبا تدثره عباءة بإزميل النحات السوري فتحي قباوة. ولكن من يستطيع محو 10751 بيتا شعريا أوردها في “لزومياته”، أو أن يدفن “رسالة الغفران” في حفرة؟
وفي رحلة العودة، يمر الصحافي على مدينة تدمر، حيث المدرج الأثري، ومعبد “بل”، وأعمدة الشارع الطويل وأقواسه، ووادي القبور والمدافن الملكية، مشيرا إلى أنه في العام 2015، تحديدا في 13 مايو، اقتحم رتل من عربات الدفع الرباعي وهي تحمل رايات “تنظيم الدولة الإسلامية” ساحة المدرج الأثري، التي تحولت إلى مساحة لـ”إقامة الحد على الكفرة بقطع الرؤوس والأطراف”، وسط رائحة الدم هذه يستذكر صويلح حادثة اغتيال عالم الآثار الثمانيني خالد الأسعد، وكان مديرا لمتاحف تدمر في الفترة ما بين 1963 و2003، ويعرف بحارس المدينة القديمة الذي رفض مغادرتها، ونجح في إنقاذ 400 تمثال وقطعة أثرية بعد سقوط المدينة.
اضطر إلى اللجوء إلى قصر الحير الشرقي، إلا أنهم اعتقلوا العالم الثمانيني وقطعوا رأسه، بعد أن رفض إخبارهم بمكان الكنوز الثمينة في المدينة، ورفض أن يجثو على ركبتيه وخاطبهم قائلا “لا أموت إلا واقفا.. نخلة تدمر لا تنحني”. كان قرار الاتهام الملصق بالجثة المعلقة على عمود كهرباء، مدة ثلاثة أيام: مدير مؤسسة وتثنية تعنى بجمع الأصنام. وهي قصة حدثت بالفعل.
أخطبوط الذل
يرصد الكاتب الأضواء الكابية التي تنبعث من المحال واستراحات الطريق العام، ودوريات “الدولة الإسلامية”، التنظيم الذي رسم منذ عام 2014 خارطة احتلاله لقرى وبلدات ومدن في الشمال السوري على هيئة رؤوس معلقة عند مفارق الطرق، وأجساد مصلوبة في مراكز المدن، مثيرة الرعب في صدور الأهالي.
يعرج الكاتب على ما يشبه مقهى وصالونا للحلاقة، “أحضرَ الحلاق الأربعيني كأسا من الشاي الأسود، ووضعها أمامي، على سبيل الضيافة، وروى كيف أن مهنة الحلاقة جلبت له المصائب، بعد أن منع تنظيم الدولة حلاقة الذقن، وكيف خضع لخمسين جلدة، على مرآى من الآخرين، بسبب حلاقة ذقن أحدهم، كان الحلاق يضع بقايا الرايات السوداء للتنظيم وقد حولها الحلاق فوطة يضعها حول أعناق الزبائن، كنوع من الثأر المتأخر من آثام تينك السنتين المضنيتين كدهر”.
وأفردت الرواية مساحة للحديث عن مخيم “الهول” (45 كلم شرق مدينة الحسكة). الذي “تدفق إليه آلاف اللاجئين من الرقة والموصل والأنبار”، خصوصا زوجات المقاتلين التكفيريين بعد هزيمة هذا التنظيم المتشدد؛ نساء وأطفال بلا قيد نفوس، أي بلا شهادات ميلاد أو وثائق تدل على هوياتهم. هم القادمون من مختلف أنحاء العالم، وحوادث عنف يومية، وحالات اختفاء، وتصفيات جسدية، ووقائع زواج وهمية للخروج من منجم الجحيم. وعقوبات صارمة لمن تجرأ من النساء على خلع الزي الشرعي، أو حتى التفكير بوضع نظارة شمسية أثناء هبوب عواصف العجاج. قال السائق “ما رأيك بزوجة من المخيم؟ ستجد نساء وأراملَ أجنبيات أجمل من حوريات الجنة”.
يقدم خليل صويلح ما يشبه تصويرا تسجيليا للأمكنة التي افترستها الحرب، ويغلب الوصف أحيانا على حساب السرد في طريق عودته إلى دمشق، ويستعيد أمكنة من الأزمنة السعيدة قبل أن تستحيل حطاما وأشلاء بشر وتاريخا مشوها. وفي دمشق يتأمل تهافتها إلى مدينة “مهجرين ومهاجرين”، مدينة بهت لونها لهجران حبيبة ينتظرها ولا تأتي، ورحيل صديقه المصور من بيته الذي أمسى ماخورا تديره إحدى المافيات وليدة الحرب.
كانت الحافلة تقترب من مدخل مدينة دمشق، بعد إحدى وعشرين ساعة من الطعنات والمشقة والأهوال، حيث مشهد البيوت وهي تئن من تأثير القذائف؛ بيوت بأحشاء معدنية مندلقة إلى الأمام، بلا أبواب وبلا شبابيك، فقد سطت الميليشيات واللصوص والفصائل المتحاربة على محتوياتها بعد فرار أصحابها من جحيم القصف؛ بيوت أفرغت من سيراميك المطابخ، وأسلاك الكهرباء، ومقاعد المراحيض، كان على الأهالي العائدين إلى أحيائهم، أن يستأجروا أبوابا وشبابيك ليستروا عري بيوتهم من العار الذي لحق بهم طوال سنوات التهجير القسري.
الرواية تجعل من سوريا عنوانا رديفا لعنوانها “احتضار الفَرس”، يكتب صويلح “اليوم، وبعد أفول زمن البهجة، تستبسل تقنيات الإذلال لترويض الجموع في كيفية تقليد عجين الفلاحة؛ الجموع التي تتدافع حول بقايا التبن في المعلف؛ الجموع التي تتزاحم مثل السردين في حافلات النقل العام التي تشبه قبرا متنقلا. وكان أخطبوط الذل بأذرعه الطويلة، يبتكر أصنافا من الموت البطيء في حدائق المهجرين وأمام أبواب المستشفيات، وفي أقبية المعتقلات، وفي طوابير الخبز، وفي مكاتب المديرين الحزبيين، حيث تغلق الأبواب أوتوماتيكيا خلف مؤخرات العشيقات”.
يشار إلى أن الروائي خليل صويلح المولود في مدينة الحسكة السورية عام 1959 بدأ حياته شاعرا عندما أصدر أول مجموعة شعرية عام 1982 وأصدر عدة روايات، أولاها “عين الذئب” عام 1995 و”بريد عاجل” (2004) و”دع عنك لومي” (2006) و”زهور وسارة وناريمان” (2008) و”سيأتيك الغزال” (2011) إلى جانب “وراق الحب” التي صدرت طبعتها الأولى عام (2002) وأهلت صاحبها للفوز كأول روائي سوري يحصد “جائزة نجيب محفوظ للأدب العربي”، عام 2009.