احتدام التوتر السياسي يهدد الانتعاشة الأمنية والاقتصادية في ليبيا

حنين الليبيين إلى الماضي المستقر لا يزال مستمرا.
السبت 2023/07/29
لا استقرار ولا تنمية دون انتخابات

دخلت ليبيا عاما آخر دون احتمالات إجراء انتخابات، فيما تواصل النخب السياسية والأمنية (وداعموها الأجانب) الاستفادة من الانقسامات العميقة المستمرة لترسيخ نفسها وأموالها وتطلعاتها السياسية في جميع العمليات الداخلية والخارجية التي تهدف إلى إنهاء الوضع الراهن وإعادة البلاد إلى مسار الانتقال السليم.

طرابلس - بعد 12 عاما من التغيير، لا يزال حنين الليبيين إلى الماضي المستقر مستمرا، بعد أن تحسنت الأمور بشكل جزئي خلال العامين الأخيرين مع خفّة وطأة الظروف الأمنية والاقتصادية، فالانتعاش ظاهر، سواء في الشارع أو بثنايا الإحصائيات، ومنذ نهاية العام الماضي توقّع صندوق النقد الدولي نموا ليبيا هذا العام بنسبة هي الأولى عربيا (17.9 في المئة).

وفي الواقع أيضا، ومع هواجس المستقبل المجهول تحسنت ظروف المعيشة بشكل ملحوظ. ويقول الليبي علي امحمد “فرق كبير نمر به الآن. بتنا أكثر إحساسا بالأمان”. ومنذ ثمانية أعوام اختطفت عصابة مسلحة في طرابلس أحد أبناء امحمد قبل أن يدفع فدية باهظة. ويقول عن تلك الفترة “كنا نخشى مجرد الخروج من البيت بعد المغرب، وفي المقابل صرنا الآن نسهر خارجا لأوقات متأخرة من الليل، حتى في الضواحي والأرياف”.

ومع ذلك، لا يزال الوضع الأمني يمثل الهاجس الأول لليبيين، فالمؤسسة العسكرية والأمنية منقسمة إلى اليوم بين شرق البلاد وغربها، ولا تزال المجموعات المسلحة تسيطر بشكل نافذ على مفاصل الدولة ومؤسساتها وتفتعل المناوشات وتغنم الأموال، حتى إن بعضها يتمركز داخل أماكن ترفيهية مثل ما يقع بحديقة الحيوان في طرابلس والتي تحوّلت إلى مقر مسلح وأُقفلت منذ 2011 حتى في وجه الأطفال.

اقتصاديا، شهد العامان الأخيران انتعاشة في الأسواق المحلية، حتى إن أزمة ارتفاع الأسعار العالمية الناتجة عن الحرب الروسية – الأوكرانية كانت أقل وطأة في ليبيا بحسب رؤية المحلل الاقتصادي عصام الجبالي.

◙ الليبيون يختلفون في تقييم النجاح الأمني والاقتصادي ويتفقون على وجود مشكلة كبيرة على المستوى السياسي

ويُرجع الجبالي ذلك لـ”أسعار النفط المنتعشة، وتخفيض سعر الدينار مقابل سلة العملات، ما سمح بتدفق الأموال وزيادة الإنفاق الحكومي، وتنامي الفساد المالي أيضا”. ويضيف “ما ساعد في السيطرة على التضخّم الناتج عن تغيير قيمة الدينار وأزمة الغذاء العالمية هو اعتماد الحكومة على جدول جديد وموحد للمرتبات العامة، وكذلك نجاحها في استئناف منح منحة الأبناء المقطوعة منذ عام 2014، والشروع في صرف منح جديدة للزوجات غير العاملات والبنات فوق سن الثامنة عشرة وطلبة الجامعات”.

ويرى الجبالي أن “استقرار الصادرات النفطية ومساعي زيادة الإنتاج هما ما ساعد على الانتعاش، كما ساهما في القضاء على أزمة نقص السيولة بعد ثمانية أعوام من المعاناة”. ولتأكيد ذلك اختفت الطوابير الطويلة أمام المصارف داخل طرابلس وبضواحيها، وأكد المواطنون تحسّن وضع السيولة في عموم البلاد.

مشكلة أخرى يبدو أن حكومة طرابلس نجحت في القضاء عليها إلى حد كبير، تتعلق بالطاقة. فقد اعتاد الليبيون منذ عام 2011 على انقطاع يومي للكهرباء يستمر في ذروتي الصيف والشتاء لأكثر من نصف يوم، هذا فضلا عن انهيار الشبكة وحالة الإظلام التام التي تكررت قبل السنتين الأخيرتين. لكن الحال تغير الآن، وبشكل واضح، فقد انقضى كامل الشتاء دون أن تلجأ شركة الكهرباء إلى سياسة رفع الأحمال المعهودة، كما انتصف الصيف دون أي قطع للكهرباء على غير العادة.

ويعتبر فتحي المرابط، أحد المهتمين بالشأن العام، هذا الأمر "إنجازا غير مسبوق منذ 2011″، خاصة إذا أضيفت له الحركة العمرانية التي تشهدها طرابلس ومدن أخرى، وكذلك مد طرق جديدة وصيانة أخرى، والشروع في إنهاء بعض المشاريع المتوقفة.

ويختلف الليبيون في تقييم مدى النجاح المحقّق على المستويين الأمني والاقتصادي، رغم تفاؤل البعض بحجم المنجز، ولكن على المستوى السياسي يتفق الجميع على وجود مشكلة كبيرة، تتجلى أكبر صورها في فشل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وعدم التوافق على قوانينها حتى بعد انقضاء قرابة عامين على موعدها الذي كان مقررا في ديسمبر 2021.

◙ لا لعودة العنف من جديد
◙ لا لعودة العنف من جديد 

ومع السياسة يجد الليبيون أنفسهم في مفترق طرق، بين ضرورة المضي في ملف الانتخابات وتجديد كل الوجوه السياسية الحالية، وبين الخشية من أن يقود هذا الطريق إلى تجدد القتال بين الأشقاء. وما زاد من هذه الهواجس هو الخلاف الحاد بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وضعف المجلس الرئاسي، وتجدد الانقسام السياسي بوجود حكومتين في الغرب والشرق.

ويرى الجبالي أن وفرة المال هي المحرك الرئيسي لخلافات السياسيين في ليبيا ومن ورائهم الدول المنخرطة في الصراع. وكان القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر قد طالب مطلع يوليو بإنشاء آلية وتشكيل لجنة عليا للترتيبات المالية تُعنى بتوزيع عوائد النفط الليبي بشكل عادل بين المدن والمناطق، وأعطى مهلة إلى نهاية أغسطس، الأمر الذي دفع المجلس الرئاسي إلى المسارعة في تشكيل اللجنة، وضم إليها أعضاء من مختلف الأطراف، كما حظيت بتأييد أممي ودولي.

وفي نهاية يونيو الماضي، هددت الحكومة المكلفة من مجلس النواب (غير المعترف بها) بإيقاف تصدير النفط عبر اللجوء إلى القضاء، وذلك ضمن صراعها المستمر مع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في طرابلس. وقالت إنها استكملت إجراءات الحجز الإداري على إيرادات النفط لعام 2022 وما بعده، والتي تربو عن 130 مليار دينار.

◙ الليبيون يجدون أنفسهم في مفترق طرق بين المضي في الانتخابات والخشية من أن يقود هذا الطريق إلى تجدد القتال

وتواجه ليبيا أزمة سياسية منذ العام الماضي عندما رفض البرلمان تفويض حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة في طرابلس، وكلف بتشكيل حكومة جديدة لم تتمكن من تولي زمام الأمور في العاصمة، وتمت مؤخرا الإطاحة برئيسها فتحي باشاغا، وتعيين أسامة حماد خلفا له.

وتتهم الحكومة المدعومة من البرلمان، حكومة الوحدة بالعاصمة طرابلس بإهدار المال العام وباستغلال عوائد النفط في شراء الولاءات بالداخل والخارج من أجل البقاء في السلطة، وتطالب بالحجز الإداري على أموال النفط المودعة بحسابات مؤسسة النفط والمصرف المركزي والمصرف الليبي الخارجي.

وتعد مسألة التوزيع العادل لإيرادات النفط الليبي، إحدى الأزمات في البلاد، حيث تتنازع الحكومة المعينة من مجلس النواب مع حكومة الدبيبة في السيطرة على هذه الإيرادات. وتستحوذ الحكومة المعينة من مجلس النواب على أكثر من 65 في المئة من إنتاج ليبيا من النفط، وستكون لأي حظر لتدفق النفط تأثيرات سلبية على الاقتصاد الليبي في ظل وضع متوتر لا يحتمل أي أزمات جديدة.

ويبدي المحلل السياسي محمد سعيد خشية من أن تكون الأوضاع شبه المستقرة التي مرت بها البلاد مؤخرا “هدوءا يسبق عاصفة جديدة”، خاصة وهو يرى أن المجتمع الدولي "لا يدفع بجدية وقوة نحو إرغام الأجسام السياسية الحالية على السير نحو الانتخابات".

ويقول سعيد إن “المجتمع الدولي يرى أن الوضع الآن متأرجح بتوازن بين الطرفين، بما يرجح عدم الاقتتال واستمرار التدفقات النفطية لأوروبا، وبالتالي هناك حالة من عدم الاكتراث لما يحدث، وانشغال بحرب الغرب مع روسيا وصراعه مع الصين. ولكن ما لا يدركه غير الليبيين أن النار تغلي تحت الرماد هنا، وأن الوضع مرشح لتدهور لم نشهده من قبل، ففي كل الأحوال لن يستمر الوضع على ما هو عليه، والخوف الأكبر من زيادة انحراف البلاد نحو الانقسام”.

6