ابن رشد يمسح دموعه بجبة الحلاج

الأحد 2015/12/13

على امتداد التاريخ البشري تعاضد الغزاة والقتلة والمستبدون في جبهة واحدة ضد الكتب والفكر وكشفوا بوسائلهم البشعة عن انحراف سلوكهم وهم يحرقون كتب الآخر المختلف ويدمرونها كطقس لإفناء فكره ومحو وجوده بالحرق والتغييب.

اقتحمت قوات المارينز منزلي في صيف 2006 بعد تحطيم الأبواب المغلقة بحثا عن مسلحين في الحي حيث يقع منزلي -وكنت أحضر مؤتمرا خارج العراق- ودمروا مكتبتي وهشموا حاسوبي والبيانو ومزقوا مخطوطاتي وسرقوا مقتنيات، ولسبب أجهله سكبوا الماء على الأرائك والكتب المنثورة.

أدخل بيتي الذي اقتحمه الغزاة المتوحشون،أجد ابن رشد شاخصا على الرف الأوسط لمكتبتي التي تواجه الباب، أرى دموعا متحجرة في مآقيه، أرى ابن طفيل يواسي الجاحظ وهما مرميان على الأرائك مزقا مزقا، وأرى فريد الدين العطار يحاور عنقاءه بمنطق البوم، أرى شتاينبك يكظم غضبا، وأندريه جيد يحاور أبا نواس ويحتسيان ثمالة كأس عثرا على شرابها في خزانة منسية، أرى مجلدات ألف ليلة طبعة بولاق تبحر في ماء انسكب من المزهريات المحطمة، أنطوان دي سانت أكسوبيري يجمع دموع الأمير الصغير في إناء من الكريستال ويقدمه إلى حي ابن يقظان الهارب من أمه الغزالة إلى وحشة الحياة.

ويوكيو ميشيما ينتحر أمامي على مقربة من حلمه الإمبراطوري، والخيول الهاربة تعدو على ثلوج الربيع والجميلات النائمات يصحون على موت كاواباتا، ويعيد ماركيز صياغة حلمه الأيروتيكي بمراهقة نائمة تقلد جميلات كاواباتا وتحوّل مسار الهوى إلى سقطة فنية.

أبكي معهم على ما جرى، آخذ بيد إيزابيل الليندي وكورتازار وابن المقفع وأستورياس ونشكل جوقة لنسلي الأصدقاء الحزانى الذين أسقطهم المارينز عن عروشهم في مكتبتي، نضع أقنعة لشعراء التروبادور الجوالين ونوقظ دون كيخوتة ولوركا وبودلير والرصافي بضجيجنا ونحن نمثل مشهد القتلة يقتحمون بيتي بعد تحطيم الأبواب ويشرعون في إطلاق النار على الشعراء ورموز آلهة سومر وأواني الزهور والشمعدانات والمصابيح والرسائل العتيقة وأقداح الشاي وأكواب أقلامي الخزفية…

… بعضنا شرع في النحيب، آخرون انفجروا ضاحكين، بكى جليل القيسى وهو يطوي أوراقا ويبللها بالدموع وينظر بعينين غائمتين إلى قلعة كركوك، ورقصت إيزابيل الليندي على أنغام التانكو التي عزفها فكتور جارا بأصابعه المقطوعة، ورأيت ابن رشد يمسح دموعه بجبة الحلاج، وأمين معلوف يضمد جراح ليون الأفريقي، وكونديرا يسأل أنيتا ديساي:

– هل عانيت من متلازمة الهوية؟

تضحك أنيتا ديساي وترتب رداء الساري على كتفها الأيمن وتشير إلى إدوارد سعيد وهو يقف خارج المكان، يقود أوركسترا غير مرئية وتجلس إلى جانب أناييس نن في ركن المذكرات، وبينهما نسائي الوحيدات، وتتهامس المرأتان بحديث ينضح منه عبق الأنوثة…

الأوراق المبعثرة تتراكض في ممرات البيت يحركها تيار عنيف جارف من هواء يهبّ عاصفا من النوافذ الواسعة التي تحطم زجاجها، فتتناثر الكلمات والدموع على السجاد والأرائك البيضاء والموائد والوسائد الهندية المزخرفة بالمرايا، وترتطم الكلمات بالجدران وأصوات الرصاص وبيوت العناكب والظلال المحفورة على وجوه الساعات والأنفاس المتجمدة على الستائر ومونولوجاتي الحزينة المرابطة في الزوايا.

الأوراق عاصفتي وقيامتي، تدور في أنحاء بيتي المستباح، وتطيح في جنونها بالأقداح وتمثال آلهة الخصوبة، وكسرات من صلصال سومري عليها تعاويذ ورموز، ويتحطم عنقود عنب من حجر اليشب، يتهاوى عالم الذاكرة في العصف، وتنهمر الأغاني من اللامكان ويسيح كل شيء في الغرف شبه طوفان يتعذر التحكم فيه، وتمتزج أصوات الرجال والنساء وصراخ الصغار بدمدمة الانفجارات..

كاتبة من العراق تقيم في عمان

11