إيف كلاين الفنان الذي قتلته الألوان

الفنان إيف كلاين كان يتجنّب إدخال عنصر غريب على لوحاته كتأويل سيكولوجي لشكل من الأشكال فاللون بالنسبة إليه هو وسيلة لبلوغ الحساسية.
الاثنين 2020/04/27
رسام اللون الأزرق

إيف كلاين نجم آفل في سماء الفن، اقترن اسمه باللون الأزرق، وبتصوّر جديد لوظيفة الفنان، يرى أن الجمال سابق لفن، حاضر في حال لامرئية، وأن مهمته تنحصر في الإمساك به حيثما وُجد، في الهواء، في المادة أو على سطح جسد موديلاته كي يُظهرها للناس.

نشأ إيف كلاين (1928 - 1962) في وسط فّني، فأخوه فريد كلاين رسّام تصويري، وأمّه ماري ريمون فنانة تجريدية، ولكنه اتّجه إلى الجودو، ولم تكن رياضة في ذلك الوقت، بقدر ما كانت وسيلة للتربية الفكرية والأخلاقية تهدف إلى السيطرة على النفس.

 وقاده عشقه للجودو إلى اليابان حيث حصل على الحزام الأسود، الرتبة الرابعة، وكان أول فرنسي يرتقي إلى تلك الدرجة.

ولكن الجامعة الفرنسية رفضت طلبا تقدّم به لتدريس هذه الرياضة الجديدة، فواصل هوايته الثانية، أي الرسم، مستعينا بكتاب للأميركي ماكس هاندل عنوانه النّشْكونية (نظرية نشأة الكون) يُعلّم المعرفة عن طريق الخيال بوصفه أهم ملكة من ملكات الإنسان؛ ومستفيدا أيضا من كتاب غاستون باشلار “الهواء والأحلام” الذي وجد فيه صدى لفكره.

بدأ يعرض أعماله الأولى في إطار فنّي منذ أواسط الخمسينات، فقدّم أعمالا لا يشغل فضاء كل واحد منها سوى لون وحيد، قبل أن يختار اللون الأزرق.

وقد جاء هذا التركيز على اللون بعد زيارة أداها إلى أسّيزي الإيطالية حيث اكتشف سماوات جوطّو، فاستلهم منه المونوكرومية الزرقاء الروحانية والمتماثلة، فطوّرها واتّخذها علامة خاصة سجّلها عام 1960 في المعهد الوطني للملكية الصناعية وأطلق عليها “أزرق كلاين العالمي IKB (الأحرف الأولى لـInternational Klein Blue).

وسرعان ما حاز شهرة عالمية، خصوصا بعد مساهمته في تأسيس حركة الواقعية الجديدة مع ثلة من الفنانين في طليعتهم بيير ريستاني وأرمان فرنانديز.

اللون الأزرق أكثر الألوان تجريدية في نظر إيف كلاين
اللون الأزرق أكثر الألوان تجريدية في نظر إيف كلاين

بدأ إيف كلاين إذن بمونوكروم من مختلف الألوان، يُغطّي به مساحة اللوحة، حتى يتجنّب إدخال عنصر غريب على لوحته، كتأويل سيكولوجي لشكل من الأشكال. فاللون بالنسبة إليه، كما هو الشأن لدى دولاكروا، هو وسيلة لبلوغ الحساسية.

ويقول في هذا المعنى “ليس بالخط نتوصل في الفن التشيكيلي إلى خلق بعد رابع أو خامس أو أي بعد آخر؛ اللون وحده يُمكن أن يُحاول تحقيق ذلك، فالقَطْعُ الممدود لهذا المونوكروم، وكذلك سُمك الإطار الذي يجعل اللون ناتئا يُساهمان في التعبير عن تلك الغاية”.

ثم حصر المونوكروم في اللون الأزرق، لكونه أكثر الألوان تجريدية في نظره، فهو الذي يسمح له بتحقيق مشروعه الفني. كان يقول “الأزرق لا بُعد له، هو خارج البعد، بخلاف الألوان الأخرى التي هي فضاءات ما قبل سيكولوجية. كل الألوان تستدعي جملة من الأفكار الملموسة، بينما الأزرق لا يحيل في أحسن الأحوال إلاّ على البحر والسماء، أي أقصى ما هو مجرَّدٌ في الطبيعة”.

وقد أنجز أكثر من مئتي لوحة لم يستعمل فيها سوى لونه المحبّب، الذي صار يعرف بأزرق كلاين، شارك بها في معرض أقيم له في مدينة كريفليد بألمانيا، قبيل وفاته.

كان إيف كلاين يعتبر أن العمل الفني ليس سوى أثر التواصل بين الفنان والعالم، وأن لوحاته ليست سوى رماد فنّه.

 وقد أخضع تجربته كلها لهذا المفهوم، سواء من خلال تجربة اللون الأزرق، أو تجربته الأخرى “رسوم بالنار” حيث يعبّر أحد العناصر الأربعة، أي النار، عن قوته الإبداعية تحت إدارة الفنان، ما يجعل الواقع اللامرئي مرئيّا. كذلك ما أسماه “تقنية الفرش الحيّة” أو “الأنثروبومترية” (أنثروبو: إنسان، ومتري: قياس) وقد تولّدت من تجارب أنجزها أمام الجمهور بموديلات تطلى أجسادها بالألوان ثم تحتك بالقماشة، وكانت غايته التخلّص من البعد الثالث والعودة إلى رسم فني أوّلي، يختلط فيه الموضوع بالأداة والوسيط، ليخلق أثرا عن حضور موديل في اللوحة، لأن اللوحة في نظره ليست سوى شاهد، يافطة حسّاسة شهدت ما جرى.

كان إيف كلاين يعتبر أن العمل الفني ليس سوى أثر التواصل بين الفنان والعالم، وأن لوحاته ليست سوى رماد فنّه

ولئن اتّخذ كلاين الأنثروبومترية وسيلة للكشف عن الجمال انطلاقا من لحظة إمساك العالم، فإن إخراجها يساهم هو أيضا في تأكيد تصوره للعمل الفني، القائم على اقتناص اللحظة المعيشة، والإثارة، لخلق حساسية جديدة.

هذه الممارسة الفنية تجد معناها في تصور متفرد للعالم صاغه كلاين انطلاقا من تجارب موازية، أولها الجودو (سبيل المرونة بمعناه الياباني)، وثانيها الالتحام بعناصر الطبيعة (الماء والهواء والنار والتراب) لكي يظهر للعيان الطاقات الإيجابية أو المتناقضة للكون، ويتمثلها كقوى روحية تسيره. أي أن نشاط إيف كلاين تسيّره كوسمولوجيا جعلت من العالم الفاعلَ الأساسيَّ في الفن.

هذه الفكرة، فكرة العالم كأثر فني، هي الإضافة البارزة التي قدّمها كلاين للواقعية الجديدة، ولو أن غاية مسعاه في النهاية فنية خالصة، فتنظيراته وتجديداته ينبغي تأوُّلها كإسهامات هامة في تطوّر الفن المعاصر، الذي كان الفنان واعيا بشروطه، إلاّ أن قصر حياته منعته من إكمال مشروعه ونشر نظرياته. إذ كان هوسه بالألوان سببافي وفاته عام 1962 ولم يبلغ الرابعة والثلاثين من عمره، لكثرة اتصاله بالمواد الكيمياوية التي كان يستحضرها لأجل خلقه الفنّي.

16