إلى أي مدى يقبل الجيش المصري بالتنازل عن امتيازاته الاقتصادية

تزايد القلق من نفوذ الجيش المصري في الاقتصاد، وخرج هذا القلق من البعد المحلي إلى الجهات المتعاملة اقتصاديا مع مصر من دول ومستثمرين، وكان آخر القلقين صندوق النقد الدولي الذي اشترط رفع يد الجيش عن الاقتصاد في آخر توصياته.
كثر الحديث عن تدخل الجيش المصري في الاقتصاد والحصول على امتيازات نوعية، اختلطت فيها الحقيقة بالخيال، والحسابات الداخلية مع التقديرات الخارجية، ولم يعد هذا الملف قاصرا على رجال الأعمال المتضررين أو تسلية السياسيين المتربصين، فقد أصبح جزءا من أجندة صندوق النقد الدولي والقروض التي يمنحها للقاهرة بعد أن اشترط رفع يد الجيش عن الاقتصاد في آخر توصياته، في إشارة تربط بين هذه المعادلة وبين تقديم مساعدات الفترة المقبلة.
ووجدت بعض وسائل الإعلام العالمية في هذه القضية حديثا شيقا يتداخل فيه الاقتصاد مع السياسة، فقد نشرت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية الجمعة تقريرا حول إنقاذ الاقتصاد المصري وضرورة خروج الجيش منه، ختمته بالقول “يجب أن تبدأ مصر في نزع السلاح من الاقتصاد، أو تتوقع مساعدات أقل”.
وأشارت تصريحات متقطعة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى وجود نية لبيع عدد من شركات الجيش، وأوضحت الحكومة منذ فترة أنه سيتم طرحها في البورصة.
وتأتي هذه الردود كلما تصاعد الحديث عن الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، لكن في الواقع لم تحدث تحولات ملموسة، بما منح فرصة لتكهنات ذهبت إلى حد أن هناك خلافات داخل الجيش حول مسألة خصخصة شركاته أو البعض منها.
وأدى الغموض الكبير والأرقام المتضاربة حول حصة الجيش في الاقتصاد إلى كثرة الشائعات والتخمينات بشأن الدور الذي يلعبه، فقد أشار الرئيس السيسي ذات مرة إلى أن حصته لا تتجاوز الـ2 في المئة، بينما المؤشرات على الأرض التي يلمسها مستثمرون قالت إن النسبة أضعاف هذا الرقم.
وليست المشكلة في تدخل الجيش في الاقتصاد أو تكوين شركات تابعة له، خاصة في المجالات الإستراتيجية وهي التي استثناها اتفاق صندوق النقد مع مصر، فكل جيوش العالم لها حصص في الاقتصاديات الوطنية معروفة أو سرية، غير أنها لا تتغول بكثافة على القطاع الخاص في الدول ذات التوجهات الرأسمالية.
وإذا وُجد التوسع يظهر في إطار منافسة متوازنة ومتساوية وتخضع لاعتبارات اقتصادية واحدة في عمليات الجمارك والضرائب والرقابة المالية، وتكون الاستثناءات في نطاق ضيق ومقبول، وهي النقطة التي تمثل لُبّ الأزمة في مصر حاليا أكثر من كون الجيش له استثمارات طبيعية تابعة له.
وعندما أشار أحد رجال الأعمال المصريين (نجيب ساويرس) إلى هذه المسألة صراحة تعرض لانتقادات واسعة، ركزت على حجم استفادة شركاته خلال السنوات الماضية وما جناه من أرباح بسبب تعاونه مع الجيش وأذرعه المتعددة، ولم يرد أحد على تحفظات الرجل حيال مبدأ المساواة في المعاملات الاقتصادية.
فلم يتهم أحد اقتصاد الجيش بالفساد صراحة، لكن الطريقة التي يتم التعامل بها مع كل من يقترب من هذه الزاوية بدأت تثير الكثير من الشبهات، لاسيما مع دخول الاقتصاد التابع له مجالات صغيرة، لا تمثل إطلاقا بعدا حيويا في الأمن القومي، سواء ناحية الصناعات العسكرية أو توفير المواد الغذائية في الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد.
ويتحفظ الكثير من المصريين على أن يكون الجيش مسؤولا عن بيع وتأجير مطاعم وكافتيريات أو بيع مياه معدنية ومشروبات غازية أو محطات وقود وغيرها، لأن الفكرة العامة عن الجيش رفيعة وتنحصر في المجالات العسكرية وتوابعها الحيوية، ودخوله في مشروعات صغيرة ومجالات هامشية وتفاصيل يراها البعض غير مؤثرة، تشير إلى أنه يدير اقتصاد حرب وليس اقتصاد دولة باتت آمنة ومستقرة.
هذا هو التفسير المنطقي لفهم التوسع الكبير للجيش (وجهاز الشرطة) في الاقتصاد، فمع الاهتمام بزيادة المنافذ التي تبيع المواد الغذائية للمواطنين بأسعار زهيدة لتوفير حماية اجتماعية جديدة للطبقات الفقيرة لم تعد المسألة قاصرة على مراكمة نفوذ في الشارع أو الحصول على مكاسب اقتصادية لأن هذا الدور يدخل في صميم الأمن القومي، من حيث تطمين طبقة يمكن أن تغضب إذا زادت عليها الضغوط الاقتصادية.
ورسخ في يقين كبار القادة العسكريين منذ سنوات طويلة ضرورة أن يكون للجيش اقتصاده وميزانيته المستقلة كي لا يكون خاضعا لما توفره له الميزانية العامة للدولة ورهينا بتقديرات طبقة سياسية قد لا تتجاوب معه لفهم متطلباته وأهدافه أو تصرّ على معرفة أسراره في زمن الحروب والتوترات، والتي تتطلب توفير أموال طائلة.
استوعب الجيش المصري دروس السنوات اقتصاديا، واستوعبها سياسيا أيضا، حيث وجد أن تغول جماعة الإخوان المسلمين في بعض القطاعات الاقتصادية، وتضخم فريق من رجال الأعمال، تم توظيفهما سياسيا، فالأولى مكنتها الهيمنة من كسب نفوذ شعبي، والثاني بدأ ينزل ملعب السياسة من باب الإعلام عندما امتلك بعض المستثمرين المصريين قنوات فضائية في أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، تحولت إلى أدوات سياسية لهم لاحقا.
لذلك لم يقتصر نفوذ الجيش على الاقتصاد، بل امتد إلى السياسة وفروعها والإعلام والفن وامتدادات كل منهما، فضلا عن الأمن، وهي الأجنحة التي تمكن أي جهة من التحكم في المفاصل الرئيسية للدولة، ما يجعل الغضب لدى المصريين أبعد من عملية السيطرة على الاقتصاد الذي يهتم به صندوق النقد بحكم دوره، وتجد فيه وسائل إعلام عالمية وسيلة لتوجيه ضربات وانتقادات سياسية، باعتباره (الاقتصاد) القاطرة التي تجر معها العربات الأخرى.
تبدو تصرفات المؤسسة العسكرية في مصر كأنها لا تزال في مرحلة حرب مع الخارج وتشعر بأن هناك مؤامرة على الدولة لا تزال ذيولها مستمرة، وأن إحكام السيطرة على الجبهة الداخلية خط الدفاع الأول فيها، ما جعل رأس الدولة لا ينكر انحيازه للجيش في الكثير من خطاباته، ويأتي حديثه عن انخراطه في الاقتصاد في سياق الموافقة والدعم وتوفير سبل الاستمرار لأسباب وطنية، لأنه على يقين من أهمية الدور الذي يقوم به، والتي ليس من بينها الهيمنة لتحقيق مكاسب اقتصادية خاصة.
الغموض الكبير والأرقام المتضاربة حول حصة الجيش في الاقتصاد أدى إلى كثرة الشائعات والتخمينات بشأن الدور الذي يلعبه
ويرفض المهتمون بالاقتصاد هذا الدور مهما كانت مبرراته ودوافعه، لأنه يخل بالتوازنات التقليدية ويقطع الطريق على الجهود التي تقوم بها الدولة نفسها في مجال تشجيع الاستثمار الأجنبي عبر التوسع في مشروعات البنية التحتية الضخمة، وبدأ يجلب متاعب سياسية للقاهرة.
أصبح التفسير الشائع عن دور الجيش محصورا في ضرره بالاقتصاد المصري وعدم مساعدته على النهوض، ومن يثقون في أهدافه الخفية وخدمة الدولة الوطنية لا يناقشون ما يقوم به من إجراءات واسعة وعلى يقين بصوابها في كل المجالات.
بينما هناك فئة أكبر مقتنعة أن الهيمنة لن تفيد الاقتصاد المصري على المدى البعيد، لأنها تسير عكس الخطط المعلنة لزيادة الاستثمار والاتفاقيات المبرمة للحصول على القروض التي لها مواعيد محددة مرتبطة بحجم التقدم في الإصلاحات، وفي مقدمتها تصحيح الخلل المتعلق بتدخل الجيش في الاقتصاد.
تظل فكرة انسحاب الجيش من الاقتصاد تدريجيا محفوفة بتحديات الإرادة السياسية في الداخل التي تتطلب توفير معلومات كافية حول درجة التدخل ومداها في المستقبل لطمأنة صندوق النقد والمستثمرين الراغبين في دخول السوق المصري قبل أن يتحول هذا الملف إلى منغص جديد، بعد أن خففت مصر من منغصات الإخوان والإرهاب وحقوق الإنسان، وخطورة هذا الملف في تقاطعه مع ملفات عديدة ومؤثرة.