إلى أين يمكن أن تؤدي خطة بايدن لإنشاء ميناء مساعدات في غزة

غزة - منذ السابع من أكتوبر، دخلت المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عن طريق البر والجو. وبعد خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن في السابع من مارس، من المرجح أيضا أن تدخل المساعدات عبر البحر. وقال بايدن “أوجه الجيش الأميركي لقيادة مهمة طارئة لإنشاء رصيف مؤقت في البحر المتوسط على ساحل غزة يمكنه استقبال السفن الكبيرة التي تحمل الغذاء والماء والدواء والملاجئ المؤقتة”، مؤكدا أن “من شأن الرصيف أن يتيح زيادة هائلة في كمية المساعدات الإنسانية التي تصل إلى غزة كل يوم”.
ومن المقرر أن تصل الشحنات إلى غزة إلى الرصيف الجديد عبر ممر بحري من مدينة لارنكا القبرصية، حيث ستخضع البضائع للتفتيش الأمني، بناء على مقترح تقدمت به جمهورية قبرص في نوفمبر 2023، بعد شهر على اندلاع الحرب.
ويقول الدكتور نمرود غورين، وهو رئيس المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية، في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط إن فكرة بايدن، رغم تقديمها كخطوة مخصصة لحل المشكلات، تسلط الضوء مرة أخرى على قضية رئيسية ظهرت خلال عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية منذ أيامها الأولى في التسعينات، وهي الحاجة إلى ميناء بحري في غزة لتعزيز الجدوى الاقتصادية للدولة الفلسطينية المستقبلية.
تاريخ من المحاولات
يضيف غورين أن التنفيذ الناجح لمبادرة “الرصيف المؤقت” الأميركية سوف يمهد الطريق لتخطيط سياسات أكثر تفصيلا وأطول أجلا بشأن الحلول البحرية لقطاع غزة في الواقع الإقليمي بعد الحرب. وعلى مر السنين، قدم الفلسطينيون الحاجة إلى ميناء بحري في غزة باعتباره رمزا رئيسيا للاستقلال الوطني ومحركا حاسما للتنمية الاقتصادية. وظهرت الفكرة في البداية، بطريقة مجردة وغير ملزمة، في اتفاقيات أوسلو عام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وتضمنت الاتفاقيات اتفاقا لإنشاء “لجنة إسرائيلية – فلسطينية مستمرة للتعاون الاقتصادي” والتي من شأنها أيضا تطوير برنامج “لتحديد المبادئ التوجيهية لإنشاء منطقة ميناء بحري في غزة”. وطوال التسعينات، أصبحت رؤى السلام واسعة وطموحة. ووفقا للمفاوضين الفلسطينيين السابقين، تصورت القمة الاقتصادية الإقليمية التي عقدت في عمان عام 1995 إنشاء ميناء بحري ضخم، يربط بين أربعة موانئ بحرية في شرق البحر المتوسط: أشدود (إسرائيل)، والعريش (مصر)، وغزة (في ظل الدولة الفلسطينية المستقبلية)، والعقبة (الأردن).
ولكن لم يتم إحراز تقدم إضافي في ما يتعلق بميناء غزة إلا في عام 1999، بعد أن حل إيهود باراك محل بنيامين نتنياهو كرئيس لوزراء إسرائيل. وتضمنت مذكرة شرم الشيخ الإسرائيلية – الفلسطينية اتفاقا على عدة مبادئ من شأنها أن تسمح لها “بتسهيل وتمكين أعمال بناء ميناء غزة البحري”. وفي وقت لاحق، بدأت السلطة الفلسطينية في عام 2000 ببناء ميناء صغير على ساحل غزة بتمويل أوروبي، لكن إسرائيل دمرته بعد بضعة أشهر، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، بعد ثلاثة أشهر فقط على بنائه.
ودفع هذا كونسورتيوم هولندي – فرنسي كان ينوي بناء ميناء في غزة إلى إلغاء خططه، مشيرا إلى مشاكل أمنية في المنطقة. وعندما تحسنت الظروف الإسرائيلية – الفلسطينية، في أعقاب فك الارتباط الإسرائيلي عن غزة وتحت القيادة الجديدة لمحمود عباس كرئيس فلسطيني بالإنابة، اكتسبت فكرة الميناء البحري قوة الجذب مرة أخرى.
ونصت الاتفاقية الإسرائيلية – الفلسطينية بشأن التنقل والعبور لعام 2005 على أنه “يمكن البدء في بناء ميناء بحري”. ومن المقرر أن تؤكد إسرائيل للمانحين أنها لن تتدخل في تشغيل الميناء، وتم تشكيل لجنة ثلاثية بقيادة الولايات المتحدة لوضع الترتيبات الأمنية التي من شأنها تمكين فتح الميناء.
◙ على مر السنين، قدم الفلسطينيون الحاجة إلى ميناء بحري في غزة باعتباره رمزا رئيسيا للاستقلال الوطني ومحركا حاسما للتنمية الاقتصادية
وكما هو الحال مع اندلاع الانتفاضة الثانية، تدخلت التطورات الجيوسياسية مرة أخرى، مما حال دون تنفيذ المشروع. وبعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2006، واستيلائها على قطاع غزة من السلطة الفلسطينية في عام 2007، تم تعليق الميناء البحري. ومنذ ذلك الحين، أدى الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة والإحجام عن إعطاء حماس رمزا إضافيا للسيادة إلى دفع فكرة الميناء البحري إلى خارج الأجندة الإقليمية والدولية.
وتم طرح أفكار حول هذه القضية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من قبل الوزراء الإسرائيليين، في محاولة متكررة لتغيير الواقع في غزة، سواء في محاولة لإعفاء إسرائيل من مسؤولية العمل كنقطة عبور للبضائع إلى القطاع أو كورقة مساومة بعد جولات مختلفة من التصعيد بين إسرائيل وحماس.
وفي عام 2011، دعا وزير النقل الإسرائيلي آنذاك يسرائيل كاتس إلى بناء جزيرة صناعية قبالة سواحل غزة تشمل أيضا ميناء. وقد تمسك كاتس بهذه الفكرة منذ ذلك الحين. وقد طرح هذه الفكرة مرة أخرى في عامي 2016 و2017، وفعل ذلك مرة أخرى في يناير 2024 في اجتماع مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، مباشرة بعد توليه منصب وزير الخارجية.
وتنافس خيار الجزيرة مع فكرة أخرى وهي بناء رصيف لقطاع غزة في قبرص. وقد اقترحت إسرائيل هذا في البداية في عام 2016، وفي عام 2018 تقدم به وزير الدفاع آنذاك أفيغدور ليبرمان. ولكن على الرغم من الدعم من بعض الخبراء، فإن هذه الفكرة أيضا لم تتحقق، وذلك نتيجة لإحجام القبارصة عن التورط في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ورفض إسرائيل إعطاء حماس رمزا للسيادة. وفي ظل عدم وجود ميناء بحري في غزة، تم نقل معظم البضائع الداخلة والخارجة من القطاع الساحلي عبر ميناء أشدود الإسرائيلي ومعبر كرم أبوسالم بين إسرائيل وغزة، حيث تخضع لتفتيش أمني.
الخيارات المستقبلية
بعد هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، أغلقت إسرائيل معابرها الحدودية مع قطاع غزة، على الرغم من ضغوط حلفائها الغربيين لإبقاء طريق أشدود – كرم شالوم – غزة مفتوحا. ودخلت معظم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح مع مصر، مع زيادة كمياتها التي يتم إنزالها جوا إلى القطاع، بما في ذلك من قبل الولايات المتحدة.
وإدراكا منها بأن هذه الأساليب لتقديم المساعدات لا ترقى إلى مستوى تلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة في قطاع غزة، وقبل خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بايدن، استكشفت الولايات المتحدة الحلول البحرية، ونظرت في مواقع مختلفة حيث يمكن إنشاء رصيف بحري. وقال مسؤولون إسرائيليون إنه على الرغم من علمهم بأن الولايات المتحدة تسعى إلى تحديد الموقع الأمثل للرصيف، إلا أنهم “لم يتم إبلاغهم بالنتائج أو بنية الرئيس الإعلان عن هذه الخطوة”.
ومع ذلك، فإن حقيقة أن هذه المبادرة تضم حليفين رئيسيين لإسرائيل؛ الولايات المتحدة وقبرص، جعلت إسرائيل تشعر براحة نسبية. وعقب كلمة بايدن، أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن “إسرائيل ترحب بافتتاح الممر البحري من قبرص إلى قطاع غزة”، لكن مبادرة بايدن لإقامة رصيف في غزة تعتبر مؤقتة. وفي حين تميل الحلول المؤقتة في الكثير من الأحيان إلى الاستمرار لفترة أطول من المتوقع، فمن غير المرجح أن يكون الاقتراح الأميركي الحالي حلا طويل الأمد للاحتياجات الفلسطينية.
ومع ذلك، فهو يوفر فرصة لإعادة النظر في الخطط والبدائل الحالية لميناء غزة، وتكييفها مع الحقائق الجيوسياسية المتغيرة، ورسم الطريق إلى الأمام. وأجرت مجموعة من خبراء الموانئ والشحن الإسرائيليين والأميركيين، بقيادة عساف عشار، دراسة بين عامي 2016 و2018، حددوا فيها وقاموا بتقييم ثماني خطط لإنشاء ميناء بحري لخدمة قطاع غزة. وتضمنت هذه الخيارات خيارات داخل إسرائيل، وفي قطاع غزة (بما في ذلك أيضا ممر من قبرص)، وفي مصر.
◙ إدراكا منها بأن هذه الأساليب لتقديم المساعدات لا ترقى إلى مستوى تلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة في قطاع غزة استكشفت الولايات المتحدة الحلول البحرية
وخلصوا إلى أنه سيكون من الصعب “تلبية جميع المتطلبات والمخاوف المتعارضة للفلسطينيين (السيادة) والإسرائيليين/المصريين (الأمن)”، حيث دعا عشار وزميله جويل سينجر في نهاية المطاف إلى إنشاء ميناء في الجزء الجنوبي من مصر إلى جانب إنشاء “منطقة تجارة حرة ثلاثية الدول” إسرائيلية – فلسطينية – مصرية.
وهناك فكرة أخرى طرحتها مجموعة من خبراء البحر المتوسط، يشارك فيها عدة خبراء إسرائيليين ومصريين وأردنيين وفلسطينيين وقبارصة وسفراء متقاعدون. وعملت المجموعة، التي شُكلت، طوال عامي 2022 و2023 على تحديد منطقة اتفاق محتمل بين جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة من أجل إنشاء ميناء بحري إضافي يمكن أن يخدم غزة، خارج ميناء أشدود.
وخلصت المجموعة إلى أن ميناء العريش في سيناء سيكون الخيار الأكثر جدوى حتى يتم إنشاء ميناء بحري مستقل في غزة. ويشهد ميناء العريش بالفعل عملية توسعة كبيرة، كجزء من الجهود المصرية لجعله مركزا إقليميا للشحن. ولن يتطلب استخدام ميناء العريش تغييرات في البنية الأمنية، حيث لا يزال من الممكن لإسرائيل تفتيش البضائع عند معبر كرم أبوسالم قبل دخولها إلى قطاع غزة، فهو سيقلل من الاعتماد الفلسطيني على ميناء إسرائيلي، وبالتالي يخدم المصالح السياسية، وسيمكن من التجارة بين قطاع غزة والدول العربية والإسلامية التي لا تعترف بإسرائيل ولا تريد التجارة عبر أشدود.
ويمكن أيضا استخدام ميناء العريش لتوصيل المعدات اللازمة إلى حقل الغاز الطبيعي في غزة البحري، في حالة التوصل إلى ترتيب لتطويره. وتم إحراز تقدم على هذه الجبهة بين مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر، ومن الممكن أن تستمر الجهود باعتبارها عنصرا مربحا للجانبين في واقع ما بعد الحرب.
وفي نهاية المطاف، بمجرد إنشاء ميناء فلسطيني مستقل في قطاع غزة، في سياق الخطوات المتفق عليها نحو حل الدولتين، يمكن ربطه بالموانئ الإقليمية الرئيسية الأخرى، في العريش وأشدود والعقبة، وربما أيضا تلك الموجودة في الخليج، كما كان متصورا في التسعينات. وما زال الطريق طويلا لتحقيق ذلك، لكن تصريح بايدن حول إنشاء “رصيف مؤقت” في غزة يوفر سببا للتفاؤل بأنه بمجرد أن يهدأ الغبار، تنتهي الحرب، وتجري تحولات سياسية داخلية في كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وقد تحتل مفاهيم السلام والتعاون الإقليمي والترابط الإقليمي والمنفعة الاقتصادية المتبادلة مركز الصدارة مرة أخرى.